على الرغم من أن الانكفاء والعزلة قد اعتمدتها الولايات المتحدة، في فترة تاريخية تطلبت ذلك، فإن انغماسها في القضايا الدولية، والطموح ببقاء الهيمنة الأمريكية للقرن الحالي لا تزال أهم الأهداف الاستراتيجية لصناع القرار وراسمي السياسة في واشنطن.

بعد مقتل السفير الأمريكي والدبلوماسيين في بنغازي، والاعتداءات على السفارات الأمريكية التي لم تقتصر على عواصم الربيع العربي، صرح السفير الأمريكي الأسبق، في إسرائيل، ومدير السياسة الخارجية في مؤسسة بروكنغز، مارتن إنديك، فيما يشبه التحذير بأن الولايات المتحدة قد تنسحب من المنطقة العربية، والشرق الأوسط.

لكن، الرئيس الأمريكي أكد في آخر تصريحاته:laquo; أن بلاده لا يمكنها الانسحاب من المنطقة quot;لأن الولايات المتحدة تستمر في كونها دولة لا غنى عنها، وحتى في الدول التي يجرى انتقاد الولايات المتحدة فيها فإنهم ما زالوا يرغبون في قيادتنا وما زالوا يتطلعون إليناraquo;.

وكان هذا الاتجاه الذي اتجهت إليه معالجة وزيرة الخارجية، هيلاري كلينتون، لمقتل السفير في بنغازي: أنَّ هذا الجريمة لا تعبر عن غالبية الليبيين.

وتأكيدا، فإن دواعي استمرار الوجود الأمريكي في المنطقة لا يتوقف على التزود بالطاقة، وضمان أمن إسرائيل، بل يتعدى ذلك إلى كون المنطقة العربية ذات تأثير واضح على القضايا الدولية، ولكون هذه المنطقة تشهد حالة من عدم الاستقرار، أو التحول الفكري والاجتماعي، ما يُلزم القوى الدولية، وعلى رأسها أمريكا بإيلائها عناية، ومتابعة مباشرة، ودائمة.

أوباما..هيمنة واقعية:
وإنه، وإن اختلف الرئيس أوباما عن بوش الابن في كيفية التعاطي مع المنطقة العربية والإسلامية، حيث مال الأول إلى الاستعاضة عن الصدام، ما أمكن، بالتعاون والخطاب الواقعي، وإن ظلت الاعتبارات الأمنية مَرْعيَّة، دون أي تهاون، كما تفعل الطائرات من دون طيار في اليمن، وفي المناطق الحدودية بين باكستان وأفغانستان، وصولا إلى قتل أسامة بن لادن، حتى لو كان بالاستعانة بالمنظمة الإنسانية:laquo; أنقذوا الأطفال في باكستانraquo;. فإن أوباما يمثل الشق الآخر من المدرسة الأمريكية التي تصر على الهيمنة، ولكن بالطرق الأقل صدامية، والأكثر تنويعا في الأساليب، بما فيها القوة الناعمة.

وهذا الأمر، أي رعاية المصالح الأمريكية في العالم، معروف، ولا اختلاف على أولويته، عند حكام واشنطن، بغض النظر عن الانتماء الحزبي للرئيس، فحتى الرئيس أوباما (الذي جاء بخطاب مختلف عن خلفه جورج بوش الابن الذي كان ينتهج نهجا تفرديا صداميا) لم يتهاون في قضايا laquo;الأمن القوميraquo;، بل حاول أن يُسكِت منتقديه الذين حاولوا إثبات قصوره في هذا المجال، وفعلا يحق له أن يواجههم بعدد من الإنجازات، ولو المحدودة، وغير التامة، ومنها بعد تصفية زعيم laquo;القاعدةraquo; الانسحاب من العراق، والتهيئة للانسحاب من أفغانستان، بخطة تأخذ من الخطة التي استُخدمت في العراق، أي تقوية الحكومة المحلية، وقواتها الأمنية، مع تفعيل دور دول مجاورة، وأهم دولة بالجوار الأفغاني باكستان التي، وإن شابت علاقاتها بواشنطن بعض السحب، وصدر مؤخرا من برلمانها طلب بوقف تحليق طائرات من دون، إلا أن التعاون الاستراتيجي بين البلدين أعمق من ذلك، وثمة سعي إلى توفير بدائل عن تلك هجمات تلك الطائرات.

وتتجه الولايات المتحدة في هذه المرحلة نحو آسيا، وتعزز وجودها العسكري البحري، بزيادة 10% في المحيط الهادي الذي كان يتناصف تلك القوات البحرية مع الأطلسي، فيما يظن أنه يصب في احتواء الطموحات المتنامية للصين التي تزيد من نفقاتها العسكرية، وتؤكد سيادتها البحرية.

وبرغم هذا الاهتمام الأمريكي في آسيا فإنها لا تغفل المنطقة العربية، ومنطقة الشرق الأوسط، ولا أظنها تفاجأت كثيرا من ردات الأفعال التي وصفها أوباما بالغوغائية، على إثر الفيلم المسيء، ولا تفاجأت كثيرا بنسبة التأييد التي تتمتع به laquo;القاعدةraquo;، أو التيارات المتأثرة بها، أو القريبة منها.

ولكنها لا تحاول، على الأقل في ظل إدارة أوباما أن لا توسع دائرة الصدام؛ بل تحاول تحييد مَنْ أمكن تحييدهم من الناس العاديين الذين ليسوا مؤدلجين، ولا منظمين، ويغلب على اهتماماتهم المتطلبات اليومية، والحقوق المدنية.
وأمريكا تعلم أن وضعا جديدا نشأ بعد laquo;الربيع العربيraquo; لعل أهم ملامحه خروج الشعوب عن السيطرة الكاملة، أو شبه الكاملة التي كان يفرضها حكام مستبدون.

فهل ندمت أمريكا على السماح للإسلاميين بالحكم؟
قد يتوقع البعض أن أمريكا ينتابها بعض الندم على دعم الحركات الإسلامية، بتمكينها من الحكم، وإعطائها فرصة، لكن التقرير في مثل هذه الأمور الخطرة لا يتم باستخفاف، أو تحت ضغط الوقت..إنما هي خيارات مدروسة، منذ سنوات، بإمكانية الاعتماد على laquo;القوى المعتدلةraquo; ولو نسبيا، في مواجهة laquo;قوى التطرفraquo;.
ثم إن الحكومات التي توصف بالإسلامية في مصر، أو في تونس، وحتى ليبيا، تبذل الجهد الممكن في سبيل احتواء المشاعر السلبية تجاه أمريكا التي تفضي إلى استهداف مصالحها، أو سفاراتها..
والصحيح أن مشكلة أمريكا، الآن، مع الشعوب العربية والإسلامية، أو مع قسم ملحوظ منها، وليس مع (الحكومات الإسلامية) التي تبدو في أشد الحرص على التوافق مع التطلعات والمطالب الأمريكية.
فهل وجود هذه الجماعات ذات المسحة الإسلامية في السلطة من شأنه احتواء هذه المخاطر الشعبية غير المنظمة، ولا المتمظهرة في كيانات ملموسة، أم إنه، مؤجج لها، كما يحاول نظام الأسد، وحلفاؤه الإيهام؟
لعل منطق الأمور وطبيعة المجتمعات تقضي بأن يتولى الحكم من هو أقرب إلى النبض الشعبي؛ فهو الأقدر على التماهي معه، ممن هو بادي التناقض معه.
فالإسلاميون يُعالِجون مَنْ هم أكثر إسلامية، إذا صح التعبير.
والإخوان المسلمون قد يستطيعون الاستدلال على مواقفهم بنصوص وخطوط عريضة قابلة للتأويل، لشرعنة توجهاتهم العامة...أكثر مما تستطيعه نظم قمعية التقت تياراتٌ فكرية وشعبية واسعة على ضرورة الخلاص منها.
وتقوم الولايات المتحدة، مباشرة، أو عن طريق المؤسسات الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، أو عن طريق حلفائها، كتركيا (التي قدمت لمصر ملياري دولار، مؤخرا) بتوفير الدعم المالي السياسي الذي يستهدف الحد من تفاقم المشكلات الملحة...
هذا، دون التهوين من تعقد مشكلات هذه المنطقة المتراكمة الأزمات والتي يختلط فيها على نحو غير متوقع، البعد العاطفي بالأبعاد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.