أخبارٌ تتحدثُ عن تعليماتٍ من القيادة السوريةِ إلى قواتِها بالابتعادِ عشرةَ كيلومترات عن الحدود مع تركيا، والردودُ العسكريةُ التركيةُ تتجدد، قد يكونُ هذا الوضعُ الجديد، لو دام ممهدا، واقعيا، لمنطقةٍ عازلة.
تركيا لا تزالُ حذرةً من الدخولِ في حربٍ منفردةٍ ضدَّ قواتِ الأسد، وتنتظرُ عملاً مشتركا مع حلفِ شمالِ الأطلسي، وبشرعيةٍ دولية.
والسؤالُ المُلِّحُ عن أية عملية عسكريةٍ، هو سؤالُ الشرعية، وهذا يحدده ما يجري في سورية، هل هي جرائم ضد الإنسانية، أم تطهيرٌ عرقي، أم خرقٌ لحقوق الإنسان؟
ويُستحضَر هنا تدخلُ الولايات المتحدة، وحلفاؤها في كوسوفو في 1999م. وهنا تختلف التفسيرات، والمسوغات القانونية...، وقد يكون هذا التدخلُّ الخارجي مشفوعاً بالرغبةِ في تمكين الشعب من اختيارِ قيادةٍ جديدة، في ظروفٍ من الحرية، وليس هادفا إلى الاحتلال والسيطرة على البلد، أو غزوها.
ويصعبُ فصلُ التدخلِّ المدفوع، بأسبابٍ إنسانيةٍ وحقوقيةٍ عن الأبعادِ السياسية، سواءٌ من حيث الدوافع المُحرِّكة، أم من حيث استكمالُ البناءِ السياسي الذي تُقدِّرُ تلك الدولُ المتدخلةُ أنَّ إنهاءَ الأزمةِ الإنسانيةِ في البلدِ متوقفٌ عليه.
وكذلك يحددُّ التدخلَّ المستندُ الذي يستندُ إليه إعلانُ الحرب، هل هو من جهةٌ مخولة دوليا، وقانونيا؟
ويصاحب هذا طبيعةُ الدولة، أو الدول المتدخلة؟ هل لها دوافع ومصالح خاصة تُوظِّفُ لها تدخلَّها، أم أنها تتمتعُ بقدرٍ من الصُّدْقية، ولو نسبية؟
هذا جانبٌ نظري، أما الميدانيُّ فالجديدُ فيه هو الردودُ التركية التي جاءت بعد تجاوزات من قوات الأسد طالت الأراضي التركية، وقتلت وجرحت من مواطنيها، وهنا توَفَّرَ الحقُّ الطبيعي، والمشروع في الرد، بما يتناسب مع حجم الاعتداء.
ولم ترَ أنقرة في القتل الأسدي اليومي غير المتناسب مع هجمات المعارضة السورية، ولا المقتصر على المقاتلين، سببا كافيا للتدخل العسكري؛ الأمر الذي خلّفَ خيبةً ومرارة، وإحساسا بالخذلان، في نفوس المتشوقين لإسقاط نظام الأسد، والشاعرين بالظلم والغضب الشديد.
فتركيا الحريصةُ على وجهٍ مقبول، ونموذجٍ جاذب في المنطقة العربية كلِّها، معنيةٌ بالحفاظ على هذا الوجه، دون التورط، في حربٍ معقدةِ الأبعاد، وتتداخلُ حولَها المشاعرُ، وتتناقض.
وهي حين تنفرد بحرب مع النظام الأسدي، ربما تظهر بمظهر المحتل، أو المعتدي على السيادة الوطنية، وقد تستثير المشاعرَ القومية، وتذكِّرُ بالفترة العثمانية التركية، ولا سيما أواخرَ الدولة العثمانية، حين كان التركُ يتسيَّدون العرب.
كما أن تركيا لا تريد بهذه الحرب الانفرادية أنْ تُعرِّضَ الجبهةَ الداخلية إلى مزيد من الزعزعة، من خلال استفزاز العلويين القاطنين جنوب تركيا، على مقربة من سورية، وهم الموالون لنظام الأسد، فإذا أُضيفَ تمردُّ العلويين المحتملُ إلى تمردِ حزبِ العمالِ الكردستاني الذي تصاعدتْ هجماتُه، بعد الدعم الأسدي له، فإنَّ أنقرة، سوف تكون خسائرُها المادية الاقتصادية والعسكرية، والمعنوية، (على صعيد شعبية حزب العدالة والتنمية ورئيس الوزراء رجب طيب أردوغان) ستكون هذه الخسائرُ أكبر.
فمع أن تركيا قادرة، ومقتدرة، على هزيمة جيش الأسد؛ فإن تعقيدات ما بعد الهزيمة، وتداعياتها، عليها، وعلى سورية، لا يمكن الاستهانةُ بها.
فالمسألة ليستْ في هزيمة الأسد، ولكنَّ المسألةَ أنه هلْ حانَ إسقاطُ هذا النظام، أم لا؟ وهل نَضِجَتْ الظروفُ الدولية، الأمريكية، والظروفُ الداخلية، ونضج قيادة قادرة على إدارة المرحلة الانتقالية؟ وهل نضجت الظروفُ الإقليمية لاستيعاب هذا التغير الجيوسياسي، وتداعياته على الدول الهشَّةِ الاستقرار، وأهمُّها العراقُ، ولبنان.

وهنا نأتي إلى صورة الدولة التركية، وكيف تتشكلُ بالمقارنة مع الدول الإقليمية، ولا سيما إيران؟
تستند تركيا، ويمكنها أن توظف عدةَّ عناصرَ، للجاذبية. مِنْ أبرزِها الوجهُ الخارجي الناعم، والنموذج الديمقراطي، والنجاح الاقتصادي الذي يسمح لها، بالتضافر مع العنصر الأول، بفتح آفاق أوسع للتعاون الاقتصادي الذي الشعوب العربية بأمسِّ الحاجةِ والتشوق إليه.
كما لا يمثلُّ العاملُ المذهبيُّ السنيُّ للأتراك، سببا للتنفير والتشكيك، كما هي إيران، مثلا، إذ يُخوَّفُ من رغبتها في تشييع السنة، إما لأغراض دينية، أو، وهو الأرجح، لدوافع سياسية توسعية.
لكن علاقات أنقرة المتميزة بالغرب، والوثيقة بواشنطن، وعدم القطيعة التامة مع إسرائيل، والعامل القومي المختلف، والتاريخ الاستعلائي القريب لها في الذاكرة العربية، ولا سيما القومية، كلُّ ذلك قد يغدو أكثر فاعلية، في حال لم تحسن تركيا التأتِّي لهذه الأزمة الحساسة.
كما قد يستحيلُ التوافقُ المذهبي السني بين الأتراك، والسنة في سورية إلى عامل تأجيج للعامل الطائفي، وينفِّر مَنْ انضمَّ من العلويين إلى الثورة.
تحاول تركيا في خطابها إلى المنطقة العربية، ومنْ أجلِ دورٍ إقليميٍّ طموح، أنْ تستدعي التوافقات، وتتوسل إلى ذلك، بسياسة تركيةٍ تتسمُ بالنضج، والعقلانية، حتى مع خصومها، أو منافسيها، من إيران، وحكومة المالكي في بغداد، ونَذْكُر سياسةَ وزير خارجيتها، أحمد داود أوغلو في laquo;تصفير المشكلاتraquo; مع الجيران، وتعزيز التعاون، وتعميقه.
والخطابُ الرسمي التركي يحاولُ أن يصور الحالةَ السورية كحالةٍ استثنائية وعابرة؛ بسبب جرائم النظام في حق شعبه المطالب بحريته، وهي إنما تختار هذا الموقف المساند للشعوب في ربيعها، كما ساندت الشعب المصري على رئيسه السني، وكما ساندت الشعب التونسي واليمني، والليبي، وكل حكامه من السنة؛ فليس في الموقف من نظام الأسد استعداءٌ طائفي، أو أجندة مُسبَّقة.
وهذا الكلام، صحيح، إلى حدٍّ ما؛ ذلك أن تركيا كانت علاقاتُها بالنظام السوري، قبل الثورة ممتازة، وعقدت معه اتفاقاتِ تعاونٍ استراتيجي. وبعدَ أنْ بدأتِ الاحتجاجاتُ بذلتْ القيادةُ التركيةُ جهودا جادةً؛ لتمكينِ الأسدِ من احتواء المطالب التي كانت دون سقف إسقاط النظام.
ولا ندري، ربما تتسارعُ العواملُ الخارجيةُ بالمواكبةِ مع التطوراتِ الداخليةِ التي تشيرُ الوقائعُ إلى توسعِّها؛ ولكن الخطورةَ قد تكمنُ في أنْ يقفزَ الخارجُ على الداخلِ، أو يطمسُه...
[email protected].