احترت في فهم ما يجري في مصر الآن!!، ويظل سؤل ملح يطاردني وسط كل تلك الحالة من الغليان والإنقسام التي تشهدها البلاد، والتي يجري فيها تقسيم المجتمع الي قسمين وطائفتين وفريقين. تري لماذا كل هذا الصراع؟ وعلي ماذا؟،هذا هو السؤال ذو الشقين الذي حاولت أن أجد إجابة عليه ولم أفلح. وعندما رحت أفتش عن اجابة في أحاديث ما يطلق عليهم وجوه الثورة المصرية الجدد الذين لا يدخرون وسعا من quot;التنطيطquot; بين الفضائيات ذهابا وإيابا،سواء كانوا سلفيين، إخوان، ليبراليين،فلول،علمانيين،لم أجد ما يشفي غليلي.

أتابع بشكل منتظم النقاشات والحوارات التي تكون تلك الأطياف ضيوفاً فيها لعلي أجد خيطا أتشبس به من اجل اكتشاف مستقبل مصر!!،وكيف سيكون؟، ويقوم؟، ولكن للأسف من بين كل تلك الوجوه التي تدعي الليبرالية والأخونة والسلفية والعلمانية وهلم جرة،لم أجد إلا وجوه سئمت من إطلالتها المتكررة علي الشاشة،فكلماتهم مثل كلمات رئيس البلاد الحالي لا تحمل أي معني ولا مضمون يدخل في مصلحة مصر، إنما تحمل في خلاصتها الأنانية والانعزالية والمصلحة الخاصة، ثم أن خطابها يستشعر منه مستقبل اسود تنتظره مصر!،فهو لا يحمل أية رؤيه، ولا خطة،ولا هدف قومي من اجل النهوض بمصر.

هل أصبح إذن قدر مصر أن تكون هكذا؟، وأن تبقي وتحيا في ظل حكام ونخبة يأتون ليتعلموا الحكم فيها والسياسة؟ هل قدرها أن تظل مسروقة ومنهوبة؟، وعندما تحين لحظة الخلاص يأتي من هم اتعس الناس لنشلتها فتغرق ويغرقون معها في ظل هذا الإنقسام والحرب الدائرة بين الطرفيين؟ أين آفاق المستقبل الرحب التي شعر بها المصريون بعد الثورة؟ لماذا انغلقت كل الأبواب في وجوههم مرة أخري في ظل هذا الانقسام البغيض الذي حدث في المجتمع بين ما يسمي بالقوي السياسية وما يطلقون علي أنفسهم التيار الديني؟.لماذا أصبحت مصر بعد الثورة مصرين؟ولها شكلين؟، شكل بذقن وجلباب وآخر بقميص وبنطلون؟.

لقد أعادنا هذا التصنيف والتوصيف للمجتمع المصري الحالي إلى عصر ما قبل الحداثة،عصر البداوة، عندما كانت القبائل تتناحر من اجل الكلأ والمرعي، أما الآن فكلاهما يتناحر بالمليونيات، وبالأسلحة البيضاء أمام قصر الرئاسة من اجل الكرسي والمنصب،والغلبة فيها أصبحت للصوت العالي والمليونية الأضخم والضمير الميت والبلطجي الأقوي.

هذا العبث،وهذا العفن الفكري الذي يخرج من هنا أو هناك من أجل طرح أفكار وقضايا ينشغل بها الرأي العام وسط تغييبه وتعتيمه علي القضايا الحقيقية للمواطن المصري المسكين الذي يتطلع إلى انتشاله من وسط ركام الفقر وانعدام الخدمات الصحية وتدني المستوي الاجتماعي،وهي قضايا غائبة تماما عن كلا الفريقين المتناحريين الآن، فريق مصرquot; الذقن والجلبابquot; ومصرquot; القميص والبنطلونquot;.

لقد عشت لحظات في عالم ما قبل الحضارة قبل أيام قليلة من خلال مشاهدة جزء من برنامج للمذيع طوني خليفة في قناة كل الناس، نشبت فيه معركة حامية الوطيس بين شيخ سلفي وأستاذ في الفنون التشكيلية عن فساد الفراعنة وممارستهم الجنس مع الحيوانات، ثم ما إذا ما كان أبو الهول صنم يستحق الهدم أم لا؟، الحقيقة أن الحوار الذي دار ورغم انه لم يصل في أي لحظة من اللحظات إلى درجة من الرقي وأسلوب الحوار الهادئ المتزن الذي يفيض بالمعرفة حتي يستفيد المشاهد، كان حوار ملئ بالشتائم والسباب، فالشيخ السلفي كانت كل قضيته فساد الفراعنة أخلاقيا، وأن خوفو قد بني هرمه من عمل بناته في الدعارة، والأستاذ الجامعي كان يري ان هذا هو عين الجهل.

الحقيقة أن طرح مثل هذه المواضيع للنقاش يصيب المشاهد بشئ من الاكتئاب،فلماذا الانشغال بقضايا حضارات اندثرت ولم يعد حساب أصحابها الآن ذي قيمة؟، لكن القيمة في ماذا تركوا من علوم،فالحضارة المصرية تحديدا تدرس في كل جامعات العالم، وأقسام علوم المصريات لا تخلوا منها جامعة واحدة،فكيف إذن يفكر هؤلاء القوم في فساد أخلاق الفراعنة؟ وماذا نستفيد إذا ما كانوا فاسدين أخلاقيا أو صالحين في ظل ما تشهده مصر الآم من أحداث؟رغم أن كتب التاريخ كانت تصنف اخناتون علي انه أحد الأنبياء الذين لم يأتي ذكرهم في القرآن.

لماذا لا ينشغل مثل هؤلاء الناس بالصالح العام ونهضة الأمة والنهوض بها من حالة التردي والتخلف؟ لماذا لا يبحثون عن مشروع لعلاج مرضي الالتهاب الكبدي الوبائي الذي يفتك بأكباد المصريين؟لماذا لا يجمعون حتي التبرعات لشراء أجهزة للمستشفيات بدل تلك الأجهزة الصدأة؟ هل هذا هو وقت حساب الفراعنة أخلاقيا؟ أليس من الأجدى حساب المتخاذلين عن النهوض بمصر؟

الحقيقة أن كلا الفريقين المتناحرين لا يبغون خيرا بمصر، ولتكن ثورة المصريين الجديدة التي ربما تفرز هذه المرة وجوها ثورية حقيقية قد تفلح في ادراة الأمة والانتقال بها فعليا وعمليا إلى الحالة الثورية الي اجهضها حكم الإخوان عندما انتهجوا نفس سياسة مبارك في الانغلاق علي الذات وعدم طرح أية رؤيه ولا خطة لكيفية الارتقاء بمصر.

[email protected]