منذ عام 1959 وحتى 1976، عام وفاته، صارت التقنية موضوعا للقلق من بين ما واجهه الفيلسوف الالماني مارتن هايدغر، وفي واقع الحال كان القلق وما زال عامَا في مراكز التفكير السياسي والعلمي والاخلاقي والاعلامي والتربوي.. الخ.. يضاف الى كل ذلك التعابير الوجدانية وردود الافعال المتفاوتة.

اعلن رئيس مجلس وزراء الاتحاد السوفييتي نيكتا خروشوف في بداية 1959 عن كون السوفييت هم الاوائل الذين خطُوا مدارا من النار انطلاقا من الارض وصولا الى القمر.

اعترف الغرب (العالم الراسمالي) بذلك التصريح باعتباره تبجٌحا لا يمكن دحضه. اي انه حقيقة لا تدعو الى الاطمئنان، وباللفظ العربي كان الاعلان نبأ وليس خبرا بمعنى انه ينطوي على مضمون عظيم او مفاجئ (1)
وفي ايلول من ذلك العام تقدَم هايدغر بتعليقه الذي تقع في حيثياته وخلفياتها معرفته بالمجهود التقني والنظري لتجسيم الطبيعة منذ ثلاثة قرون خلتْ، مما عزَز رباطة جأش الفيلسوف: فالتصريح السوفييتي غير موزون، وبالطبع من الجهة التي يصدر عنها تعليق هايدغر، وان مدار المركبات الفضائية يدفع الارض والسماء كليهما وبعنف الى لجَة النسيان، وان هذا التغيير الطارئ ليس بداية عهد جديد بل هو دفع الوضع القائم الى اقصى تمامه.
هذا من بين ما سمَاه الفيلسوف مأثرة تدشين الفضاء تقنيَا.

كان ذلك حين وصل الى سن السبعين، وبعد ذلك في الثمانين عام 1969، تحدَث عن انزعاجه من التقنية، وعن ابتعادها عن العلم، وعن الاغتراب الذي يعاني منه العلم لعدم قدرته على التفكير،حيث تخلى العلم عن السؤال الفلسفي. كان انزعاجه منصبّا على وضع الاسلحة المدمرة وضعا احتياطيا خلف الازرار وتحت الانامل. واستمر تعليقه خارج المتن الفلسفي،يكرر الرغبة في ايقاظ الانتظار ويشدد على الدورالمحدود للفكر بالمقارنة مع السلطات ذوات النفوذ. كما واصل توقعه لان يشهد العالم تفهما لكائن التقنية بعد ثلاثمئة سنة،كما كانت التقنية مردودا لعمل دام ثلاثة قرون.
ان موضوع الزمن في عمق الكينونة وفي تبسيط الموجودات، اخذ طابع الهوامش الفلسفية المعتمدة على السؤال وتقواه المتصلة سواء عبر الذاكرة او بما لم يوجد بعد. لم يعد للتقنية الحديثة علاقة بالآلات، ولابد من تاسيس علاقة للانسان بالتقنية وذلك بالتجاوز، بالمعنى الهيغليَ، اي بابطال المفعولات والابقاء على خير ما في عالم التقنية، وفي الهوامش التي نشرت بعد موته، كان قلقه قد اخذ موضوعه من مسألتي الوطن والتجذَر في تقليد ما.
وكلَ ذلك متعلق بزحف التقنية وتوسَعها الجارف، وانه لايستطيع تقديم مساعدة للاخرين في ظل الطابع العابر لفكر يحاول استقصاء الوجود الذي لايفكّر. وفي اخر عبارة قالها لتعلن بعد موته حدّد واجب التفكير في ان نكتفي ببناء طرق ضيّقة وعدم الذهاب بعيدا.

من الواضح ان قضية مصير الانسان هي ما كان يشغله، ولكن منهجيا كانت اجراءاته تقريبية. ان الصعوبة او الاستحالة، هي التي تلجئ فيلسوفا متعايشا مع المشكلات الكبرى من خلال الزمن الى المقاربة اللغوية نحو المضمون الاصلي الذي يتعرَض الى استمرار التراجع. ومع كل ذلك، وبدون تناقضات جوهرية، فان هايدغر ظل يأمل، ان يتقبل اقتراحه مفكراتٍ من بعيد على طريقة هنريك فون كلايست (1777-1811) يشق عنان عزلته قائلا : انني مستعد للامّحاء امام انسان ليس هنا بعد، وانحني لروحه من مسافة الف سنة.

ومع ان الشعور بنسبيَة المسافات صار عامَا، وعاميَا، بمعنى من المعاني، الا ان خطوات المنهج تبقى ملتزمة الى حدود كبيرة بآلية الملاحظة ثم التحكم والتفقه بالملاحظة، ومن هنا فأن نقل الطرق الضيقة التي نصح ببنائها هايدغر والاكتفاء بذلك الى مفهوم اجرائي يكون ملائما من دون التسبب بتشويش الشعور بنسبية المسافات، حتى وان لم نتوسع في التوقع بان الطرق الضيقة هي ايضا قصيرة او مغلقة،فالضيق هو اقرب الى تصور السيطرة على المساحة والانتقال لاحقا منها، وفي عادات اللسان كما في اللاشعور- وهو بالمناسبة مفهوم اجرائي ايضا - الذي لا تتزاحم فيه ثقافة اللسان ؛لا تكون الطرق الضيقة طويلة وليست مغلقة.
اذن نحن امام المقاربة approach اي ان نتوصل الى معرفة ما هو غير ممكن وذلك بتعبير ممكن، ولو باستبدال كمية تقريبية بكمية صحيحة الى حين زوال التعذَر في التعبير (رياضيا)، وهذا لايتم اجراؤه الا اذا كان ما هو مطلوب لازما واللازم مطلوبا (تعريفات الشريف الجرجاني بعد اعادة التحرير، وهو يقابل approximation بمعنى التقريب)

ان الطريق الضيق هو المقاربة الممكنة لتوقع اللقاء بكائن التقنية بعد القرون القياسَية مقارنة بما سبق مركبة 1959، ومنذ الان فنحن وفي مكاننا الصغير نتلقى التدفق التقني ونشارك فيه بتفاعل قد يخترق وظيفة الاتصال التي اعتاد عليها الانسان في وجوده والذي طالما اعتقد الناس انه لن يتزحزح.

قد يكون كلايست حجة من حجج العزلة المكانية للادب الالماني ولكنه ايضا من بين ادلة الاتصال الزماني العالمية. كل شئ يمكن ان يتسع من ناحية معناه حتى لتبدو الحقيقة بحذافيرها ضائعة احيانا بين براثن طاغوت المجازالمتكاثر المسموح به من طرف المعنى الحقيقة والذي اثرناه مرة بعد اخرى، ولكن من المؤكد اننا نبدأ من نقطة ما ونقترب الى ما لم يكن ممكنا الدخول فيه بداية.
لا يعني ذلك ان نقطة البداية غير مسبوقة، ولكنّها اجراء مقصود لغاية تتجاوز البداية، في الغالب الى ما بعدها، وقد يكون ذلك ايضا الى ما قبلها (في الذهاب والاياب)، بيد اننا نقصد الغالب هنا.
في مادة quot;قربquot; من لسان العرب جاء ما يأتي: quot;المقربّة : طريق صغير ينفذ الى طريق كبير quot;ولا يخفى على القارئ انني اجعل هذا المعنى مساويا لاجراء المقاربة approachمن الناحية المنهجية، علما ان الاشارة الى الحديث: quot;من غيّر المقربة والمطربة فعليه لعنة الله قد سبقت في quot;اللسانquot; مباشرة المعنى الذي نقلته آنفا، كما ان التحقيق في الحديث ليس من هدف هذه الملاحظة، على اهمية ان تكون المقربة والمطربة من طرق الليل والسير الى الماء.. الخ (يرجع الى مادة طرب في اللسان)

سنعتبر جملة لسان العرب الصغيرة منفذا الى جُمل اكبر، كما هي المقربة، فهذه الكلمة هي من ابنية اسمي الزمان والمكان، وتشير، اذن، الى الزمان القصير الذي يتطلبه قطع الطريق الصغير، مع معنى القرب للنفاذ الى الطريق الكبير، والملاحظ ان وصف الطريق جاء بالصفة المشبهة: quot;صغير، كبيرquot; وليس قصير طويل، فالصغر والكبر صفتان لازمتان للطريقين ووظيفتيهما،اي ان الصغير لايكبر والكبير لا يصغر، اضافة الى الدلالات الاخرى المتداعية حسب ظروف القول والمعنى. المهم ان ننفذ الى طريق كبير، في ظرف معين، علينا ان نسلك طريقا صغيرا. والا، في ذلك الظرف المتعيّن، لن نتمكن من الوصول. اي لن يتصل طريق بطريق. فاتصال طريقين مختلفين في المسافة ومتطلبات الجهد وفي الزمن.. يبدأ من الصغير، على الارض. هكذا يبدأ الاتصال، بغض النظر عن الذي يسلك الطريق، وصفاته، وهل يقطعه بيسر اوعناء، والى اين سيصل، وما هي غايته.
يختار عدد من المتخصصين في الاعلام من العرب، كلمات محددة لتأصيل معاني الاتصال (دلالة التأصيل هنا هي البحث عن اصل وتثبيت وجوده جينالوجيّا)، ويعتمدون على الاصول، قدر ما يجدون فيها تصريحا بالفكر الاصطلاحي الخاص. ومما يأخذون به اية سورة القصص quot;ولقد وصّلنا لهم القول لعلّهم يتذكّرونquot;

يوجد في هذه الاية حمل اعلامي مركّب، على مستوى المعجم والبناء الصرفي والاسلوب النحوي والبلاغي وكذلك في المعلومة والمضمون، او اذا اخترنا تعبيرا اخر: على مستوى التحرير، ففي مستوى المعجم، يؤدي الفعل وصّل معنى الاتصال الذي يتم شيئا فشيئا، او جزءا فجزءا، كما في توصيل قطع الحبل، جاء في quot;اساس البلاغة quot; للزمخشري :.. quot; وصّل الشئ بغيره فاتصل، ووصّل الحبال وغيرها توصيلا: وصّل بعضها ببعض، ومنه.. ولقد وصّلنا لهم القولquot; ويذهب الراغب الاصفهاني في quot;مفردات القرآنquot; أبعد من ذلك...quot; وصّل: الاتصال اتحاد الاشياء بعضها ببعض كاتحاد طرفي الدائرة ويضادّ الانفصال، ويستعمل الوصل في الاعيان وفي المعاني quot;ثم يعلّق على الكلمة في الاية: quot;أي اكثرنا لهم القول موصولا بعضه ببعض...quot; وفي quot;المعجم الوسيطquot;: quot;وصّل الشئ بالشئ : اكثر من وصله، بمعنى ضمّه به ولأمه..quot; وتتضمن هذه الاقوال معنى البناء الصرفي للفعل الثلاثي المزيد بتضعيف الصاد: quot;وصّلquot;، فمن معاني quot;فَعّلquot; التكثير كما ان من معاني quot;تفعّلquot; quot;التدريج quot;وهو ما يخص quot;يتذكرونquot; (شذا العرف ndash; الحملاوي). اما من ناحية الاسلوب النحوي، فان الاية مزدوجة بين quot;ووصلنا لهم القولquot; وهي جملة خبرية تحتمل لذاتها الصدق وغيره وبين quot;لعلهم يتذكرونquot; وهي جملة انشائية لا تحتمل لذاتها الصدق وغيره، وسنقول ملاحظات ثانية عند التعليق على عموم الاية، اما المستوى البلاغي والمتعلق هنا بالبناء النحوي فالاية فيها quot;كمال الانقطاع quot; في مباحث الوصل والفصل من قسم المعاني في البلاغة العربية،وهو مناسبة اخرى للتعليق الذي سيأتي.
تبقى المعلومة التي تدور حول الاية، وهي موجودة في كتب التفسير (ينظر الطبري وبهامشه غرائب القران للنيسابوري في تفسيرسورة القصص وسبب نزول هذه الاية في الجماعة التي أسلمت) وسنتناول المضمون، وبما يتعلق بمعنى التوقع في quot;لعّلquot; حول الاسلوب الانشائي.

يأخذ التوكيد حيّزا متواترا في الاية، من لام الابتداء وقد التحقيقية، وتضعيف الفعل quot;وصّلquot; وكونه حادثا في الماضي ولام التخصيص في quot;لهمquot; وهذا يعني ان quot;القولquot; وصل اليهم من غير شك في صدق خبر وصول الرسالة، وهذا ما يسمى جملة خبرية. ثم تأتي quot;لعلهم يتذكرونquot; فلعّل تفيد التوقع او الرجاء، فالتذكر يرجى وقوعه، اي انه غير واقع وقت وصول القول، لكن وصول القول مخصصا لهم يجعل من الاستمرار في تذكره امرا غير مستبعد. وهكذا يكون القول المتصل في الماضي مستحقا لدوام التذكر حاضرا ومستقبلا (زمن المضارع في الاية).

يتبع

1 (يراجع الجزء الاول من روح المعاني للالوسي بشأن التخصيص في كلمة النبأ مما قد لايكون في كلمة الخبر ndash; حول تداول الاسماء في قصة ادم من سورة البقرة-، ينظر ايضا الفروق اللغوية لابي هلال العسكري)