وقع الاشكال النحوي quot;الدينيquot;، اذا جاز التعبير، في quot;لعلهم يتذكرونquot; فقد احرج عدد من النحاة بالتوقع الذي في لعلّ وحاولوا اعطاءها معنى آخر ونفوا عن الله عدم معرفته بمصير قوله بعد وصوله،اعتمادا على الالتزام بالمعنى الذي قيدّوا به اسلوب الانشاء، فهو غير دال على الصدق وغيره، وقد فهم سيبويه مبكرا علاقة القاعدة النحوية بالمعاني المحرجة، فأحال الرجاء والاشفاق الى المخاطبين (شرح الكافية للرضي وكان ابن جني في quot;المنصفquot; قد اشار الى ماهو ادق وله علاقة بهذا الاتجاه وسماه التبيين على طريقة استاذه ابي علي الفارسي وهو أن تعلّق الكلام بما يدل عليه من معنى ولا تقوم بتقديره على الصلات النحوية الاعرابية وقد كان سيبويه كثيرا ما يجئ بالامثلة على المعنى وليس على تقدير الاعراب وبخاصة في المنصوبات لانه موضع مشكل)، وفي الباب الرابع من quot;مغني اللبيب quot;، وهو باب ما أغناه وأكثر اقتراب افكاره من حظوظ اللغة وجدلها ازاء القواعد التي قد يلعب التنقير فيها، لاشعوريا او عن قصد الى يتم النص وعقم القاعدة عن التماشي مع حقلها الذكي كما عرف ذلك عدد من الشعراء وردوا على تطفّل النحاةا لذين حاولوا التضييق على نصوصهم وتعجيزها وذكروا عن الخليل بن احمد انه سئل لماذا قيل في تصغير واصل أو يصل ولم يقولوا وويصل حسب القاعدة فقال: كرهوا ان يشبّه كلامهم بنبح الكلاب؛ حرّك ابن هشام في ذلك الباب التفريق بين دلالة المظهر الاعرابي المتشابه وبين الاختلاف في جوهره وحقيقته. وبالعودة الى كتاب سيبويه فان النداء هو اول الكلام ابدا اي أصله، والاستجابة في التذكرانما تقع على الذين وصلهم القول.
اذن جاءت الاية في اسلوبين نحويين هما : الخبر والانشاء، لكنها على المستوى البلاغي جاءت في اسلوب الفصل، بل مايسمى بكمال الانقطاع،بسبب من الخبر والانشاء اللذين فيها .وهنا يحق للباحث في تاصيل دلالات الاتصال،ان يتابع

الحلقة الأولى

المصطلح البلاغي في الوصل والفصل ودقائقه عند عبد القاهر الجرجاني quot;دلائل الاعجازquot; وكذلك في الاليات التي نظر بها السكاكي quot;في مفتاح العلوم quot; الى جهات القول وشرح ذلك الخطيب القزويني في quot;الايضاح quot;وفي ذلك قواعد للانطلاق نحو تحرير اعلامي مفعم بالمنطق والذوق وواقع الحال والوظيفة. فالفصل والوصل،وهكذا الخبر والانشاء، اساليب تتعلق بالاستجابة اللغوية لمطالب المعنى واستجابة المتلقي للرسالة،وكذلك هو الانتقال من اسلوب الى اسلوب،وتضمّن اسلوب معنى اسلوب اخر،وكما في الحذف والذكر،واتجاه الخطاب من حاضرالى غائب والالتفات الى العكس،فيما يسمى ب quot;شجاعة العربية quot;كل ذلك في الظاهرة الصوتية،او في تجلياتها عن مونولوج داخلي، فليست في عالم الاتصال اللغوي جزر اصطلاحيةانما هو في النهاية وصل فحسب، مهما كثرت الفجوات القابلة،اولا واخرا، للعبور الى المعنى والمتلقي مع توفّر الفكرالاصطلاحي الذي كان هدفه الاصلي ان يصير دليلا بين الادلة لا حاجزا فيما بينها (يراجع باب شجاعة العربية في quot;الخصائص quot;لابن جني وفي المثل السائر لضياء الدين ابن الاثير-باب الالتفات)
هذا ما عرفه المتصوّفة المسلمون في استعمالهم لكلمة الوصل،مع التمادي فيها، لكنهم وهم يعالجون النص القراني،كانوا لا يكفّون عن تقليبه وتقريبه من فهمهم وذوقهم،بل ان صدر الدين القونوي في تفسيره quot;اعجاز البيان في تأويل امّ القران quot;ينثرالكلمة (الوصل)على العناوين نثرا مع قرينتها الفصل quot;الفصل quot;كذلك فان الحارث المحاسبي في كتابه quot; فهم القران quot;قد نظر الى مباحث الوصل والفصل في اطار حيوي قابل لاستمرار quot;التذكر quot; واستعمل كلمة quot;ثوّرquot;لايقاظ المعاني والاساليب القرانية، وهي الكلمة التي وردت في حديث نبوي يدعو الى quot;اثارة القرانquot; او تثويره (النهاية في غريب الحديث والاثرndash;لمجد الدين ابن الاثير ومن الغريب ان محقق كتاب المحاسبي وضع كلمة يثّور بين قوسين كبيرين مع علامة الاستفهام، حيث استشكل الكلمة في حين ان نشاط المحاسبي في الكتاب كله يعد ثوريا،بالمعنى الذي قصد اليه الحديث).
ان اية quot;القصصquot; نموذج مثالي لبثّ الرسالة فهي قد وصلت بطريقة لالبس فيها ولا ديماغوجية،والمتلقون غير مجبرين على الاخذ بها.وبما انها موجهة الى مجموع،فهي تقع ضمن الاتصال الجماهيري،الذي تهدده البروقراطية،كما نعلم اليوم،سواء في مستوى الرسالة نفسها،او المرسلين او المستهلكين،والاية تامل في التذكر،وهو التدرج في اعادة انتاج ما تلقته الذاكرة،وهذا مايقطع على التلاعب البروقراطي نفوذه.وتورد سورة quot;الزخرفquot; مثالا على الاتصال الجماهيري للسلطة،من خلال خطاب فرعون لقومه :quot;ونادى فرعون في قومه قال يا قوم اليس لي ملك مصر وهذه الانهار تجري من تحتي افلا تبصرون.ام انا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين. فلولا القي عليه اسورة من ذهب او جاء معه الملائكة مقترنين. فاستخف قومه فاطاعوه..quot;.
قول quot;فرعونquot; سريع من فوق ؛ بروقراطي يهدف الى سرعة طاعة قومه. على خلاف quot;وصّلنا quot;في القصص. تقوم المقارنة في quot;الزخرفquot; باشياء غير متناظرة (ديماغوجية) بين فرعون و موسى حتى يكون القوم طائشين في ان يخفّوا الى طاعته(مفردات الراغب مادة خف)وكان له ما اراد من الجماهير بطريقته. في quot;القصص quot; كان هدف الرسالة هو الامل في التذكر.فالرسالة هناك متراكمة،شيئا فشيئا،ليكون التذكر تدريجيا في الزمن.فرعون اتصاله تعبوي بالكامل. الكلام عمومّي يستسلم القوم فيه.خطاب quot;القصصquot; استراتيجيّ بالكامل.والاختيار حر.اذا كان ثمة اتصال فهذا هو :رسالة مبثوثة وتوقع ردود الملتقي. نفوذ فرعون هو الذي يطاع مباشرة، والقوم لا يطيعون انفسهم فهم لا يملكون (مثل موسى)شيئا مما يملكه فرعون. الجماهير تستغفل ضمائرها ايضا.اية quot;القصصquot; اتصال.ونشاط فرعون في عنفه اللغوي اذا جازت لنا الاستعارة هو اتصال. والنص يعيد التذكر انتاجه.(تقوم بروقراطية الاتصال الجماهيري على الوسائل والكوادر والبيئة او المحيط الداخلي.. وكل ما له علاقة مباشرة بما يسمى بخدمات الاتصال وصراعها من الاعلان حتى العلاقات،ان دور مثل هذه البروقراطية في تعاظم خارج المكاتب بحيث قد تتشابه وبروقراطية الشارع،على حد تعبيرميشيل ليبسكي..)
ان اخر نص ساذكره في هذه المقاربة الخاطفة التي تعاني من نقص اكيد ياتي من سورة quot;البقرة quot; وصورته قاطعة بصدد وسائل الاتصال البيولوجية المشتركة ودورها في التداول العقلي على مستوى الجماعات، بله الافراد،:quot; صمّ بكم عمي فهم لا يعقلونquot;. هناك ما يشبه هذه الاية في عدد من سور القران مع اختلاف في الفواصل والتركيب، ولكن هذه الاية تربط العقل وعمله المستقبلي بالسمع والنطق والبصر. وهؤلاء الموصوفون هنا محرومون من عمل العقل وتداولاته حرمانا نهائيا، وهم جماعة صماء بكماء عمياء، في كتلة عنيدة من العيوب الاصلية الثابتة (صفات مشبهات باسم الفاعل) التي يعمل فقدانها جميعا بالتضامن على انعدام عقل الجماعة الموصوفة.فالتلقي مفقود (السمع والبصر) والارسال كذلك.(اللسان). وهكذا لا يكون للاتصال دور في حياتهم العقلية وقد يكون المعنى مقلوبا بمعنى ان فقدانهم العقل افقدهم القدرة على استعمال تلكم الوسائل، والقران كثيرا ما يذكر هذا المعنى الشائع المتواتر في الجماعة المخصوصة به والذي يكاد يكون قريبا من الخلود فالموضوع هو انه لا اتصال بلا عقل ولا عقل بلا اتصال، على الخصوص الاتصال البيولوجي المذكور بوسائله.
واذا كان هذا حال الجماعة فان الفرد لن يكون موضوعا لذاته، كما هو الوضع في ظل الوسائل الحديثة للاتصال واثرها النفسي، ولابد من التعرض الى استثناء حالات العزلة الاختيارية، او الاجرائية العامّة، لاي سبب من الاسباب او لاي وقت من الاوقات، فهي مما لا يدخل في انعدام التعقل او عدم القدرة على استعمال الوسائل البيولوجية، الا لامر نسبي او لاختيار ما او اضطرار قد يكون سليما من جهة الفرد او الجماعة، ولكنه لايتصف بالتفاعل النشيط، الذي هو صفة حيوية للاتصال الحديث قد لايمكن ضبطها والتحكم فيها. يطرح عدد من الفلاسفة الاجتماعيين الاميركان، وخاصة اولئك الذين عكفوا على تطوير لغويّات شومسكي ونقل تخومها الى حقول اخرى كالاتصال، يطرحون قضية الهوية المنبعثة مجددا في نوع من السلوك يستجيب فيه الفرد لنفسه، لا ان يسمعها فقط مثلما يقوم بذلك شخص اخر، وهنا يكون الفرد قد صار موضوعا لنفسه. هذا هو ايضا من مكتسبات الاتصال،بعد ان يقرر الفرد فرديته ويتاكد من ذلك باستمرار ضمن الحريّة، او الحريات العامة في الثقافة الديموقراطية.
هنا نحن نتحدث عن تعويضات التراكم في اميركا، عبر التعاقد اللبرالي الذي يتضمنه الدستور ونظرية الفرد التي تواصل الثقافة ايقاظها وتطويرها وتشغيلها والسهر على حمايتها، من كل الجوانب، وقد كان المثقفون، على طريقة والت ويتمان واميرسون، يمدّون التعويضات بنسغ تجدده التطلعات الجسورة.
ان حقول الاتصال الشاسعة، تعيد التذكير بهايدغر، حيث يكون الفرد موضوعا لذاته مثلما يتوصل جورج ميلر، فقد علّق الفيلسوف الالماني بامتعاض على البرغماتية الوضعية للفلسفة الاميركية، مع ملاحظته عن ايماءاتها الجديدة، واصدر انتقادا حميما للاشتراكية الوطنية، وكان يأمل باحياء بعض افكار الشرق (قصد بذلك الصين والهند) وروسيا، لكنّ حقول الاتصالات، جعلت من تلقي العالم خارج الراسمالية الاصيلة اشبه بالموافقة المضطربة لزبون الامراض النفسية على تشخيص فرويد بعبارة فجنشتين.
كان من السهل، والصعب ايضا، بالنسبة لمفكر، يشتق الاسئلة لصالح التفكر، مثل هايدغر ان لايسام من الانتظار، وهو يعلم انه في مكانه الصغير يستطيع ايواء فكرة كبرى ستاتي بعده فيحجز لها مشكاة من عقله.
والحقيقة ان وسائل الاتصال تؤثر فيما هو غير اتصالي بشكل مضاعف وخارج منظوماتها وانظمتها مثل التاثير اللاسياسي للسياسة، وهنا ينبغي اعادة قراءة تعليقات هايدغر، فلسفيا بالطبع، الخاصة بالوطن والتجذر ودفع الارض والسماء الى لجة النسيان، بوساطة التقريب وخدمات الاتصال،لانه سرعان ما تدفع التقنية كائنها الى خارج تخومه، من الناحية الشكلية على الاقل، وتجعله مغتربا عن ذاته وموضوعا لها في الوقت نفسه، وهذا الازدواج، الذي يبدو متطرفا ومحيرا بالنسبة للمفكرين الاجتماعيين والسيكولوجيين واللغويين ومفكري الفنون ويدفعهم الى ان يعودوا فلاسفة بمعنى من المعاني الكلاسيكية.
الى وقت ليس ببعيد كانت الثورة الاعلامية واضحة الخطوات، اما الان، فان التدفق في انتاج التقنيّات والاستهلاك السلبي المتنامي، والذي له صور من التفاعل، يجعل التواصل غير مضمون الاثار. واذا اخذنا مثالين عن الخطوات الواضحة فسنجدهما الان غير كافيين للتوضيح
ففي الولايات المتحدة الاميركية بدأت المجلة واسعة الانتشار quot;يواس نيوز اندورلد ريبورتquot; عام 1974 بجمع اخبارها وتهيئتها من غير الة كاتبة، وانتقلت الى استعمال الحاسبة الالكترونية، ونقل كل معلوماتها ndash;بما في ذلك صور الابيض والاسود- بوساطة قمر اصطناعي، الى مطابع متطورة في ثلاث مدن رئيسة ليتم طبعها فورا. وفي اليابان، كان العمل تجريبيا لربط التلفزيون والجريدة والمكتبة حيث صار بامكان المشترك تسّلم جريدته اليومية عند ضغط زرّ خاص في تلفزيونه الذي يعمل من خلال الكابل، وهكذا مع الكتب في المكتبة المربوطة. ولنا ان نقارن خدمات الاتصال اليوم بما كانت عليه بالأمس... اما وعود الغد الاعلانية فيجب ان لا تغيب الهستيريا المصاحبة لها عن المستهلك، الذي ما زال ينعم بسيادة تستديم هكذا بالنزف، رضي ام لم يرض، عرف ام لم يعرف، سلبا...ام ايجابا، مع التزامه المطبق بقلق صيرورته كائنا من كائنات وكيانات التقنية، مع تحقق quot;شرطه الكافي!quot; الا وهو: موافقته في اضطرابها العميق.. (الموافقة على كل ذلك.. مع عدم القابلية او الرغبة في التردد ndash; ولو لهنيهة -من اجل حسن التخلص. فكيف له بالتملص متحاشيا سيادته التي تنمو وتتاكل معا بين حاجاته الرمزية.. في تجاذبها العنيف ذي التداعيات غير الرمزية؟).