مشهد على الهامش:ميدان التحرير يوم 27 / 1 / 2012... رجل يبدو عليه رقة الحال، يرفع لافتة تحتوي على صورته مع طفلته .لمصابة بمرض عقلي، وكل طلباته تنحصر في تكاليف علاجها التي لا يتمكن من توفيرها بعد أن دوخته الحكومة السبع دوخات.. لم يكن هو الوحيد من يحمل مأساته الخاصة جداً على صدره في ذلك اليوم ويقف في عمق الميدان أو على أطرافه.. قد لم ينتبه إليه البعض لإنشغالهم بالصدام مع منصة الأخوان ـ المستفزة جداً بالمناسبة ـ أو بالهتاف ضد حكم العسكر، ولكنه وغيره من أصحاب الحاجات كانوا حاضرين في المشهد منذ بدايته، صبروا على مبارك وفساده، وثاروا حينما يأسوا من الغد، ولأسباب كثيرة شعروا بأفول الثورة فاستندوا على العسكر، ولحظة الفشل في الإدارة انتخبوا الأمان الديني.. ولكن الغريب في الأمر أن هذا الرجل المكلوم في ابنته قرر حمل لافتته في الميدان، دون جدار البرلمان، أو بيت من فوضه في المجلس.. وكأنه يعلن وبمنتهى الصمت، أن كل ما فات لم يضمن له حقه في الحياة.. ونقطة ومن أول السطر.
يا سادة جميعنا الآن أمام اختبار المرحلة الأخيرة، وعلينا أن نختار بين ساسة متآمرون وأحزاب أعلنت الحياد أو الانسحاب، وحكومة هرمة عاجزة جاء رئيسها ليكمل مشاريع تركها قسراً أو بكامل إرادته منذ ما يزيد عن عقدين من الزمان، وعسكر فاشلون في الإدارة السياسية لدرجة أسقطتنا جميعاً في سياق التخوين أو شفا الحروب الأهلية. وأخوان تحققت أهداف ثورتهم هم فقط، وأصبح السعي لمزيد من التمركز حول الذات والسلطة أسمى همومهم. علينا أن نختار بين كل تلك العناصر مجتمعة أو بناء دولة يقوم فيها كل بدوره الذي يجيده، بناء قد يتطلب المزيد من التضحيات، لكن على الأقل تكون لدينا رؤية واضحة لغد أفضل، فرغم كل ما حدث ونزيف الدماء يبدو أننا جميعاً لم نجد آلية واحدة تنتفق ونحتكم إليها، الأمر منذ بدايته كان محض ارتجال، عبثية احتوت الجميع، فلم يحاول أي فصيل أن يتخلص من عيوب اعتدناها بعد عقود من القمع.
فالأخوان لم يتخلصوا بعد من نفس العقلية الأمنية التي عانوا منها في عهد مبارك، لدرجة توحدهم معها، بشكل يشبه التوحد بين العبد والسيد أو مازوخية من يتعرض للتعذيب حتى يدمنه، ولدى غياب السيد يتمثل العبد نفس آليات سيده وأسلوبه، لا أقصد أن الأخوان كانوا عبيد النظام السابق، بل أوضح فقط كيفية التفكير، فحينما يقرر حزب الحرية والعدالة أن يكون الحزب الوطني الجديد، بعد ترشحه على كل مقاعد البرلمان، خلاف ما أعلنوا منذ البداية، وحينما يستخدمون مليشياتهم العسكرية المدربة للاشتباك مع المتظاهرين في التحرير أو في حماية أغلبيتهم في المجلس، بعد تقديمهم كل نفيس منذ عام وفي نفس الميدان، نكتشف تدريجياً أن الأخوان يحكمهم نفس المنطق في التفكير الذي كان يحاكمنا به نظام مبارك وفساده، والأهم أن الثورة انتهت بالنسبة للجماعة على مقاعد البرلمان، وهنا مكمن الخطورة الحقيقية.
فالأخوان بتخليهم عن الثورة ودخولهم في سياق البرلمان بهذه الكثافة، سيضعهم في مواجهة شعب بأكمله ينتظر أن يُطعم من جوع ويأمن من خوف، شعب لن يهتم كثيراً بالصفقات أو التحالفات السياسية، أو بلجان المجلس التي تخلت عنها الأحزاب لصالح الأغلبية الدينية لدرجة أوصلت الجماعة الإسلامية بكل تاريخها الدموي المعروف إلى لجنة التعليم على سبيل المثال، وهي نفس الجماعة التي قرر أحد رموزها أن يمارس الدور الموكول إليه في تخوين بقية الفصائل السياسية. شعبنا يا سادة رغم ما أصابه من داء الصبر، لن يصبر هذه المرة، فإما تلبية المطالب الحيوية والحياتية حالاً وإما ثورة حقيقية تأكل الأخضر واليابس، وأنتم ستكونون في مقدمة المشهد، ولا أعتقد أنكم تملكون شنط رمضان وأنابيب البوتجاز لمصر بأكلمها. !!
والأهم عسكر قائمون على السلطة، وفي أقل من عام حولوا الهتاف من quot; الشعب والجيش إيد واحدة quot; إلى quot;يسقط حكم العسكر quot;، وضعونا جميعاً في مواجهة مؤسفة أمام أقدم وأهم مؤسسة في التاريخ المصري وهو الجيش، بنمط إدارة يعتمد على الخضوع أولاً قبل أي تفاوض أو قراءة سياسية واعية، وكأن مصر بأكلمها بكل فصائلها السياسية لابد وأن تتحول إلى ثكنة عسكرية، والغريب أنه وبعد كل ضحايا الإدارة الفاشلة بداية بمحمد محمود ومجلس الوزراء وصولاً لمذبحة عبثية في بور سعيد، وشباب يضيع بلا جدوى، ويتحولون من حياة إلى مجرد رقم في أوراق رسمية، وفوضى الشارع وانفلات أمني، ما زالت القيادات العسكرية تنادي بخارطة الطريق، أي طريق وأي خارطة!! وكم من الضحايا سننتظر!!، ألم يحن الوقت أن تعيدوا التفكير في نمط إدارتكم التي تذهب بنا إلى سكة اللي يروح ما يرجعش، وتقديم مشروع حقيقي ينقذ البلاد والعباد، حتى وإن كانت نتائجه رحيلكم من سلطة آلت إليكم بالدماء!!.
ومن وجهة نظري لن يدوم الأمر طويلاً إلا وسنشهد صدام سياسي بين المجلس العسكري والأخوان، وستنتهي حالة التوافق بين كليهما، والناتجة بطبيعة الحال ليس فقط بسبب توحد المصالح المؤقتة، ولكن للطبيعة الفكرية المشتركة في تنظيم الأخوان والفكر العسكري، ولا أقصد الأيدولوجية الدينية، وإنما أشير إلى أن فلسفة الخضوع وعقيدة القيادة، فكلا النمطين يقتربان إلى حد بعيد من بعضهما البعض، ولكن ستظل هناك أزمة مؤجلة لن يحسمها التشابه بقدر ما سيكون سبباً في اشتعالها. وهي غياب الدستور الذي يشكل قنبلة موقوتة في وجه الجميع، حتى بعد انتخابات الرئاسة، لذا يحاول الجميع تأجيله إلى لحظة موعودة، فطمع الأخوان في السلطة لن يقتصر على مقاعد المجلس الذي حازوا على أغلبيته، وإنما قد يتجاوز ذلك إلى محاولة وضع دستور يضمن للأغلبية حكماً دائماً، سواء بشكل توافقي رئاسي برلماني أو حكم برلماني محدود بحزب الأغلبية، وفي كلا الحالتين سيؤدي ذلك مباشرة إلى الحد من سلطان العسكر ونفوذهم على الدولة أو على مشاريعهم الداخلية، حتى بعد إنسحابهم من واجهة المشهد السياسي إلى خلفيته، فمن الصعب أن يضمن الأخوان تفوق نسبي للعسكر في الدستور الجديد، مما قد يؤدي لحالة من التأزم بين الجبهتين.
خاصة وبقية الفصائل السياسية والحزبية والثورية ما زالت على حالها من إنعدام الرؤية والتشرذم، فحتى حينما يتفقون على رحيل العسكر، يختلفون في آلية اختيار الرئيس الجديد، مثلما حدث في العام الماضي، اتفقنا على رحيل مبارك واختلفنا فيما دون ذلك. فمع عدم قدرتهم على التوحد تحت مظلة سياسية واحدة، وغياب أي مشروع تنموي يضمن لهم البقاء في الشارع الذي لم يعد القاهرة والإسكندرية فقط بل كل نجع في القطر المصري، وإصرارهم على تمزيق الذات، ستقع هذه البلاد فريسة لحكم ديكتاتوري جديد، أياً كان شكله ديني أو عسكري أو حتى مدني إقصائي، وسيقعون ضحية التطاحن على القمة السياسية.
الجميع لم يتخلص من عيوبه الموروثة من النظام السابق عسكر وأخوان وثوار، حتى النخبة المثقفة التي ما زالت تجتمع في الندوات والمقاهي والفضائيات، يجترون معارفهم المحدودة أمام أناس لا يتجاوزون أصابع اليدين، ويتهمون المجتمع بالجهل حيناً وبالعجز حيناً، لم يقدموا تضحية واحدة وهبطوا من سمائهم المحدودة إلى رحابة الشارع.
يا سادة نحن أمام وطن على شفا الإنفجار، وشعب نصفة تحت خط الفقر، وأمية تعليمية وثقافية تنهش فينا، من يملك منكم حلاً توافقياً حقيقياً ليقله أو يرحل.. فالرجل الذي في الميدان لن ينتظر طويلاً علاج ابنته، ولن يظل ممسكاً بلافتة بالية مدى الحياة، فاحذوره.


أكاديمي مصري
ahmedlashin@hotmail. co. uk