مصر حارة سد!!
في عصور الفوضى المصرية حينما كان يحكم الأحياء جملة من الفتوات، تحت مبدأ البقاء للأقوى، كان من ملامح الانتصار في المعارك الدموية التي يخوضها أقوياء الحارات، أن يُحاصر أحدهم في حارة سد، بحيث لم يعد أمامه إلا القبول إما بالموت أو الانتصار، فلا مهرب. ذلك الانطباع يقفز إلى ذهني كلما تابعت المشهد المصري، المتسم بالعبثية والفوضى من القمة إلى القاع، فرغم تعارض المسارات التي احتوت كل فصيل أو فئة، إلا أن النتيجة واحدة، وهي الوصول للحارة السد التي لا مهرب منها إلا بالتخلص من الأخر أياً كان، خاصة ونحن لا نملك رفاهية التراجع، فانقطاع الأمل يجعل من الهدم ونفي الأخر أكثر بساطة من مجرد التفكير في التغيير.
تلك الوضعية الفوضوية هي المتحكمة في التفكير المصري إلى الآن، البقاء للواحد الأحد، فالفوضى لا تقبل بالتعددية التي هي من سمات الشعوب الأكثر تحضراً، والأقوى عليه أن يسيطر على الميدان دون شريك، وعلى الضعيف أو المستضعف أن يقبل يهذه النتيجة كبديهية لا تحتمل التأويل أو النقاش.تلك الفكرة تبدأ من الجماعات الدينية ولا تنتهي عند أندية كرة القدم، مروراً بالأحزاب السياسية التي قررت الإذعان للأقوى والأكثر تنظيماً.
حادثة كنسية المريناب في أسوان، تعبر عن هذه الحالة بجلاء، وإن كانت ليست هي الحادثة الوحيدة، ففوضى هدم الكنائس وتهديد الأقباط حاضرة في العديد من النماذج بداية من أطفيح وإمبابه وغيرهما، فالجماعات الإسلامية التي تصدر فتاوى القتل والتكفير والاضطهاد أصبح لها اليد الطولى على مجتمع مؤهل بطبيعة الحال لاستقبال الفتنة والتعصب في مختلف مناحي الحياة، وليست فقط الدينية، فشعب يعاني من الأمية والجهل الثقافي والتعليمي، والتي كان من مصلحة الأنظمة الفاسدة وأشباه المثقفين أن يستمر الحال على ما هو عليه لعقود طويلة، من البديهي إن يتحول تدينه في جانب منه إلى عنف مكثف ضد الأخر، خاصة في ظل غياب الرقابة القانونية، أو عصى الحكومة إن صح التعبير.فالفرد الذي قرر أن يقف لمدة خمس ساعات يهدم كنيسة مقامة منذ ستين عاماً، في حالة انتشاء بالعنف الذي يراه مقدساً، لن يمارس نفس هذه الطاقة الرهيبة في بناء مصنع أو مدرسة، فثقافة الفتوات و نفي الآخر، هي الأكثر رسوخاً.
الأهم أن هذه الحادثة وغيرها الكثير مما سوف يأتي، يكشف عن بنية هشة للمجتمع القبطي، ليس بوصفه أقلية، فتعداد الأقباط في مصر لا يستهان به، ولكن ما أقصده هو سلبية التعاطي مع قضايا تمس الوجود المسيحي في مصر بشكل عام، فعقود الحشد التي مارستها الكنسية كانت لعزل المجتمع القبطي عن الواقع الاجتماعي، مما ساهم في الحد من أي تواجد سياسي أو مجتمعي ممكن للأقباط.فرغم كل ما شهدته الساحة المصرية خلال الأشهر الماضية من حضور سياسي مكثف للعديد من الجماعات الإسلامية رغم ماضيها الدموي والإقصائي، لم تشهد نفس الحضور لحزب مسيحي على سبيل المثال، بل لم ينطوي الأقباط تحت لواء أي تكتل مصري مدني، رغم دعوتهم ورغبتهم الأصيلة في دولة مدنية يحكمها القانون بوصفها هي الأمل الأخير في احتفاظهم بهويتهم وكيانهم وأمنهم وهذا هو الأهم، كدليل على الطبيعة السلبية التي يعاني منها أقباط مصر، مما ساهم شئنا أم أبينا في تأثير أي دعاية دينية مضادة في مجتمع يتسم بالتعصب والوحدوية كمنطلق للتفكير.وفي المنتهى تحولت الحالة القبطية إلى رد فعل، وانتظار لخلاص سياسي لن يأتي في القريب.
ففي ظل حالة الفوضى والميوعة السياسية، من الصعب أن ننتقل إلى دولة مدنية متكاملة الأركان تحترم حق المواطنة والوجود بغض النظر عن أي تميز ديني أو اجتماعي، فالدولة هي افراز اجتماعي يعبر عن ثقافةو معاناة كل مجتمع بتاريخه وهويته الخاصة، ولا اعتقد أننا مجتمع مؤهل لخوض تلك التجربة بشكلها الكامل على الأقل خلال العقود القادمة، فما ترسخ في الوجدان الجمعي سواء الديني أو الاجتماعي لا يشي بذلك مطلقاً، والتجربة المصرية الآنية خير برهان على ذلك.
والأهم أننا أمام جملة من الأحزاب الوهمية، الخالية من أي قاعدة شعبية أو خلفية أيدلوجية ناضجة أو مكتملة، سواء القديم منها والتي ساهمت بإرادة كاملة في إفساد الحياة السياسية المصرية وتفريغها من أي مضمون، بداية من حزب الوفد المتردد بين صفقاته مع جماعة الأخوان أو مع المجلس العسكري أو حتى مع نظام مبارك وبقاياه، معتمداً في وجوده على خلفية تاريخية، حينما عاشت مصر أزهى عصور الديمقراطية قبل الإنقلاب العسكري، تلك الخلفية التي أفسدها الوفد بكل بساطة بعد تحوله إلى حزب الصفقات ورجال الأعمال.مروراً بجزب التجمع الذي قرر العزلة السياسية والثقافية.وصولاً للأحزاب الجديدة التي سوف تفسد أي مشروع سياسي قادم، سواء المعتمد منها على أساس ديني ترويجي وتجاري، أو التي تعتمد على نخب ساهمت في التضليل الثقافي والإعلامي لعقود طويلة، فكل من عقدوا صفقات الديمقراطية الوهمية التي شرعها نظام مبارك، أصبحوا الآن رموز للحالة الثورية، مما يثير مزيداً من السخرية.
كل تلك الكيانات الحزبية الهشة، لم تجد لها سبيلاً سوى القبول بنظرية الفتوة، الأقوى الذي ينظم العالم المصري الآن، فقرروا القبول بشروط العسكر، وأسموا ذلك تفاوضاً، ليستكملوا دائرة التضليل السياسي، وحفظ ما تبقى من ماء الوجه، فالحقيقة أنها كانت مبايعة متكاملة الأركان، وقبول بكل ما يُفرض، خاصة في حالة إنعدام البدائل، فكل الأسماء المطروحة على الساحة السياسية والإعلامية من مرشحين محتملين لخوض انتخابات الرئاسة المصرية، حولهم العديد من التساؤلات التي قد تطعن في شرعيتهم من الأساس، ولم ولن يمتكلوا يوماً مشروعاً مصرياً ناجحاً وناجعاً.وبالتالي يصبح الحل الوحيد المتاح هو القبول بمقدرات العسكر على كل ما تحتويه من ذاتية وسلطوية، وهذا ما فطنت إليه الأحزاب فقررت ألا تنتظر طويلاً في الحارة السد.
حتى رموز التيار الديني، وعلى رأسهم جماعة الأخوان، الذين بعد ثمانين عاماً من النضال وعقد الصفقات، والصراع مع السلطة أو التقرب منها، لم يستطيعوا أن يقدموا ما يمكن أن يُعتد به أو يُعتمد عليه، فرغم الإلحاح على التواجد الأصيل في انتفاضة يناير، والمتاجرة بدماء الشهداء، والخطاب السياسي التعبوي، واعتمادهم على العطايا والهبات الممنوحة للشارع، إلا أن طبيعة تفكيرهم النمطي أدت إلى انشقاقات داخلية وخلو الجماعة من أي رمز قد يكون صاحب رؤية ومشروع سياسي متكامل.
يا سادة !.. في ظل انعدام البدائل، وفوضى الشارع السياسي، وسعي مجتمع أن يحصل على أقرب المكاسب المادية من قمته إلى قاعه، والهرج الديني المتعمد في كثير من الأحيان والمتسق مع طبيعة المجتمع في أحياناً أخرى، يصبح مبدأ القوة هو الحاكم الوحيد، الفتوة القادر القاهر.
إلا إذا قررنا جميعاً ألا نكون ضحية الحارة السد.

اكاديمي مصري
[email protected]