دعونا نرتب الأحداث قبل مشهد المحاكمة الذي لن ينساه التاريخ الحديث. بداية اعتصام في ميدان التحرير امتد قرابة الشهر، شارك فيه أهالي الشهداء ومختلف القوى السياسية، مروراً بجمعة رفض المجلس العسكري والتي انتهت بمشهد موقعة العباسية الدامي والذي تضامن فيه أهالي العباسية مع العمود الأصيل للنظام وهم العسكر، فقرروا الإطاحة بأي حركة احتجاجية في إشارة دالة إلى مصير كل من تسول له نفسه معارضة السلطة في ثوبها النظامي الجديد، خاصة بعد جملة من البيانات العسكرية التي تؤيد هذا التضامن الشعبي، وتفضح بقية الفصائل السياسية وتمويلها الأجنبي، في كوميديا سوداء تعلن احتكار التمويلات الأجنبية على الجهات الرسمية فقط، أو كأن الدعم المالي العربي للتيار الديني المصري ليس تمويلاً أجنبياً!!!. وصولاً لمليونية التيار الإسلامي بمختلف توجهاته السلفية والأخوانية، في استعراض لحافلات الصعيد والوجه البحري، والتي أتت محملة بمن ينادي على أسامة بن لادن، ويرفع أعلام السعودية، وفي النهاية يعلن تأييده السياسي الكامل للعسكر... ينتهي هذا الفصل على المسرح السياسي بفض اعتصام التحرير بالقوة العسكرية، تحت زعم أن الميدان قد تم احتلاله من قِبل قوات الباعة الجائلين والبلطجية !!، ثم يأتي مشهد مبارك وولديه خلف قفص الاتهام. ويظل سؤال هل جاءت محاكمة الرئيس المخلوع بناءً على طلب الاعتصام الذي استمر لأسابيع قبل فضه بالقوة؟، أم استجابة لرغبة انتقامية استحوذت على تفكير الجماعات الدينية بعد أن أخرجتهم ثورة يناير من السجون؟، أم نتيجة بديهية لموعد مُعد سلفاً من قبل المجلس العسكري؟!.
خرج علينا مبارك في مشهد أهان فيه نفسه قبل أن يلفظه شعبه، ممدد على سرير المرض المدعى، في محاولة أخيرة أثبتت فشلها مراراً، باستدراجنا إلى تعاطف نفسي لن يسمن ولن يغني، فالذي غاب عن ذهنه المريض، أن السلطة الآن لم تعد في يده، وأن رصيد التعاطف موجه بكامله إلى أصحاب السطوة الفاعلين على الأرض المصرية، ولن يفيد الشعب المصري أن يُظهر أي تضمان مع رئيسه السابق الذي حكم الفساد ثلاثة عقود، اللهم إلا بعض المدفوع لهم مقدماً، ليظهر المشهد المصري منقسماً على ذاته بين مؤيد ومعارض. فمبارك قد انقلب حاله من رئيس إلى مخلوع إلى متهم، والأهم أنه أصبح جوكر السياسة المصرية، ورقة اللعب التي تغير من مسيرة الأحداث، فمحكامته المؤجلة لشهور قسّمت القوى السياسية بل والشارع ذاته إلى فئات وطوائف، وحصرية مشاهدته خلف قفص الاتهام ـ والتي ستمتد لشهور كذلك ـ ستغيّبنا عن أي مستقبل منتظر، وتجعلنا عرضة لكل طامعي وراغبي السلطة، وما يصاحب ذلك من موائمات ومؤامرات.
والأهم أنها ستمنحنا لحظة تطهر لسنا جديرين بها، فالسفاد الذي ترسخ في وجداننا المصري واختلط بطين هذا البلد ودمه، لم يكن مبارك هو السبب الوحيد في وجوده أو خلقه من العدم، فدوره ينحصر في تقنينه وتحويله إلى قاعدة يُحكم ويحكام بها المجتمع، فالفساد الذي قررنا أن نحكامه عليه منفرداً، كلنا شركاء فيه للنخاع، وإلا ماذا نسمي صمتنا عن فساده الذي امتد إلى ثلاثين عاماً ؟!، فمن المؤكد أنه لم يكن حكم عدل ثم تحول في أخر عهده إلى شيطان رجيم. فقبولنا طوال عقود بفساد وإفساد امتد من مأكلنا ومشربنا وصولاً للحياة السياسية والاجتماعية حتى الأخلاقية، دليل كافي على ما مارسناه في حق أنفسنا ووطنا من جرائم نستحق معها أن نوضع بجانبه في قفص الاتهام.
المشكلة الحقه أننا قررنا أن نضع فاسداً واحداً على مذبح تطهرنا، فاسد حولناه بكامل إرادتنا إلى صنم يُعبد، وحينما كفرنا به حطمناه، لنعلن توبتنا عن عبادته وليس عن الفساد الذي ما زال قابعاً فينا وفي حياتنا العامة والخاصة، لنعلن وبمنتهى الصلف أننا أنقياء أطهار، لا نتحمل ما اقترفته أيدينا من خطايا.
فسادنا لم ينتهي عند حدود الصمت، بل بدأ بها، فبداية برجل الشارع الذي علم أبنائه شريعة الغاب، وأن الغاية تبرر الوسيلة، مروراً بإعلام مجد ونافق وصنع أبطالاً ونجوماً وهمية، جسمت على تفكيرنا وشغلت حياتنا لعقود، نهايةً بشيوخ الدين وقساوسته الذين أفهومنا أن حياتنا الخاصة والخاصة جداً هي منتهى الأمل والطموح، دون مجتمع ينهار ووطن يتآكل. كلها ملامح فساد ساهم الجميع في ثباته واستقراره.
الأوجع، هو ما يحدث الآن من فوضى سياسية بدت متعمدة، فالجميع اتفق على محاكمة مبارك، واختلفوا فيما دون ذلك، ثم تفرقت الجموع لتبحث كل فرقة وجماعة وحزب وإئتلاف عن المصالح الخاصة لتضمن لهم البقاء، فالأحزاب الليبرالية تفكر في صفقة مع الجماعات الصوفية، لتشكل ثقلاً تفتقده ضد التيار السلفي بقدرته وسطوته في الشارع، والأخوان تمارس ديمقراطيتها الخاصة على شاشات الفضائيات وضغطها الشعبي على العامة بعطايا وهبات رمضانية انتظاراً لانتخابات برلمانية، والمجلس العسكري احتل ميدان التحرير بعد مليونية السلفيين. ومن يزعموا الترشح للرئاسة قرروا أن تستمر حالتهم الإعلانية في الفضائيات، لينضموا إلى مسلسلات الهزل التي نشاهدها قصراً على الشاشات. أليس ما نعانيه الآن إفساداً متعمداً للحياة السياسية لا يختلف عن ممارسات مبارك القمعية؟!.
يا سادة فلنحاكم مبارك، ولنذبحه على طوالة العدالة المصرية، فهذا أقل مما يستحقه، ولكن في المقابل لابد ألا ننسى أننا من صنعناه وحفطناه، وطالما أننا قررنا الثورة، فلنثر على أنفسنا أولاً، على فسادنا، وانتظارنا أن يأتينا المخلص من سماء سياسية فاسدة ليخصلنا أو يزيدنا تيهاً وضلالاً، فمبارك ونظامه خطيئتنا نحن في البداية، وعلينا أن نحرص ألا تتكرر خطايانا، وأن نكف عن عبادة الفرد أو الكفر به. فلنكن أكثر صراحة أمام مرآتنا، فهذه فرصتنا الوحيدة والأخيرة حتى لا نخلق مبارك من جديد.

أكاديمي مصري
[email protected]