امتلأت السماوات الإعلامية ضجيجاً، في احتفاء مهيب بعائدين اشتهروا إعلامياًً بالوفد الشعبي المصري، ولا أعلم من أوفدهم!، وأي شعب مصري يمثلون!. فهم في النهاية لا يمثلون إلا أنفسهم أو من يتعبون من الجماعات والمنظمات، والتي بالتأكيد لا تمثل الشعب المصري في إطلاقه، وبالتالي يصبح من غير المنطقي أن يتحدثوا باسم عموم مصر، وكأننا عقدنا استفتاءً شعبياً لنختار من يمثلنا في عودة العلاقات المصرية الإيرانية، بعيداً عن الدولة المصرية أو القنوات الرسمية!. ولكن الغريب أن العكس هو الحادث بالفعل، فالوفد الممثل فيه جماعة الأخوان المسلمين والجماعات الصوفية، و حفنة من أساتذة الجامعات ذوي الميول الأخوانية، وغيرهم من الإعلاميين، قد تم اختيارهم بالاسم من قِبّل الحكومة الإيرانية بدعوات مباشرة، فهم جماعة تم انتقائهم بعناية تتسق مع ذهنية النظام الإيراني وأهدافه، وليس الشعب المصري ومصالحه.
عادوا ليحكوا لنا عن مغامراتهم العجيبة في بلاد العجم، وكأنهم اكتشفوا فجأة قارة جديدة على أطراف العالم، أو أرضاً ما كنا نسمع عنها شيئاً، مليئة بالمعجزات الاجتماعية والسياسية. في محاولة أن ينقلوا لنا صورة اليوطوبيا الإيرانية وكأنها الحل الأمثل لجميع مشكلات الشرق ومصر تحديداً، متناسون العمق الديكتاتوري القمعي الذي يتحرك من خلاله النظام الإيراني طوال عقود، وليس ببعيد عن أحد ما عانته المعارضة الإيرانية على كل المستويات من شمولية دينية تدعي القداسة ولا تقبل الإصلاح أو التغيير. بل ما يعانيه المجتمع الإيراني بشتى طوائفه من حصار للحريات العامة والخاصة، إلا المنتمين للدوائر الدينية أو العسكرية. بشكل أوضح كيف لنا ونحن على مشارف مرحلة جديدة، ومصر حديثة كما نأمل، تخلصت للتو من نظام قمعي ديكتاتوري، أن نتواصل مباشرة مع النظام الإيراني بكل ما يحمله من تاريخ استبدادي!!. بل والأغرب أن أحد أعضاء الوفد غير الشعبي بالمرة، حينما كان يريد أن يتواصل على صفحات المواقع الاجتماعية التي ساهمت وبشكل رئيسي في الانتفاضة المصرية، لينقل لنا انطباعاته اللحظية أثناء الزيارة، كان يفعل ذلك عن طريق وسيط أخر، لأن المواقع الاجتماعية محظورة في إيران!!.
رغم ما تحمله تلك الزيارة من دلالات خطيرة وعلامات استفهام تحتاج إلى نقاش طويل، ولكن دعونا نجمل القضية في عناصر تحدد المصالح المتبادلة بين الجانبين الزائر والمضيف:
أولاً :إيران مشروع الدولة الدينية المتحقق بقوة منذ السبعينيات، كان ملهماً وداعماً للعديد من جماعات الإسلام السياسي، خاصة جماعة الأخوان، التي رأت في النهضة الإسلامية في إيران نموذج يمكن تطبيقه، وحلم يستحق التواصل معه، ولهذا تاريخ ليس بخافي عن أحد، منذ وصول التيار الإسلامي للحكم في إيران، والرحلات المكوكية الأخوانية لآيات الله في إيران. وبالتالي وفي الظرف التاريخي الذي تمر به مصر الآن يصبح من المنطقي أن تحاول الجماعة التواصل المباشر بعد انهيار العائق الأمني أو النظام ككل، في محاولة لاكتساب شرعية حقيقية للدولة التي يحاول الأخوان تطبيقها في المحروسة، فرغم محاولة رموزهم المستميتة للتصريح بعكس ذلك، فالعلاقات الأخوانية الإيرانية متجذرة في التاريخ بشكل يصعب نفيه أو تكذبيه، فمشروع الدولة الدينية يظل هو حلم الأخوان المنتظر للتحقق دائماً،.. هذا من الجانب السياسي. أما فيما يتعلق بالتوغل الإيراني الديني في الساحة المصرية، فقد كان يتم ذلك عن طريقين أولهما الشيعة المصريون، وهم لا يشكلوا عبئاً عددياً أو حضوراً حقيقياً، والثاني بعض الجماعات الصوفية والتي تمكنت إيران طوال عقود، أن تؤسس لها وجوداً ملموساً في أوساط التصوف المصري، وبالتالي تصبح الجماعات الصوفية في جانب منها قنطرة العبور الإيراني للمجتمع المصري، أو على الأقل لفئة ليس بقليلة داخله. فإعلان الولاء الصوفي أو الأخواني للنظام الإيراني أمراً لم يكن مستبعداً في ظل غياب الدولة المصرية وحضورها السياسي الداخلي أو الخارجي، مع الوضع في الاعتبار أن العلاقات الرسمية بين الدولتين لم تتجاوز حتى الآن جملة من العزل السياسي المتبادل، في حين أن إيران تحاول إثبات سطوتها على بعض العناصر والجماعات المصرية عن طريق هذه الزيارة.
ثانياً : محاولات البعض ترويج العلاقات المصرية الإيرانية بهذا الشكل، مستنداً على العلاقات السياسية التي تربط بعض دول الخليج بإيران، وعلى رأسها الإمارات، لهو قياس فاشل أو مضلل، ينم عن جهل أو تجهيل متعمد. فالطبيعة الاجتماعية للخليج العربية تجعل من إيران فاعل رئيسي على الساحة السياسية والاقتصادية، سواء على المستوى التاريخي أو الآني، فنسبة السكان الخليجيين ذوي الأصول الإيرانية نسبة فاعلة ومؤثرة، كما أن الاقتصاد الخليجي في جانب منه خاصة دولة الإمارات يعتمد على أصول أموال إيرانية. مع الوضع في الاعتبار البعد الاستراتيجي القائم بين إيران ودول الخليج العربي، والذي يجبر كلا الطرفين أن يحافظ على الحد الأدنى من العلاقات السياسية والتمثيل الدبلوماسي. ولكن يظل السؤال مطروح على الوفد الشعبي، ما هي الضرورة الإستراتيجية التي تجعل من العلاقات المصرية الإيرانية أمراً ملحاً في هذا المنعطف الخطير على الساحة المصرية ؟!!.
ثالثاً: الخطر الحقيقي الذي يعاني منه النظام الإيراني الآن، هو ربيع الثورات العربية، الذي من الممكن أن ينسحب مباشرة على الداخل الإيراني، ليقوض دعائمه وأسسه الدينية الديكتاتورية، المتمثلة في نظام ولاية الفقيه المطلقة، الذي يمنح السلطة بموجب الدستور لشخص واحد فقط، يمتلك قدسية خاصة بوصفه نائب الإمام الغائب تبعاً للفكر الشيعي الإثنا عشري. ذلك الخوف مردّه أزمة الانتخابات الأخيرة للرئيس أحمدي نجاد 2009، والتي تسببت في قمع قوي ومباشر لكل عناصر الإصلاح في الدولة الإيرانية أو من يساند التيار الإصلاحي من داخل النظام. وبالتالي قرر النظام في إيران أن يحتوي الداخل والخارج، فمنذ اندلاع الثورة التونسية ثم الثورة المصرية، والنظام الإيراني يحاول صبغة تلك الانتفاضات الشعبية بصبغة إسلامية إيرانية، طبقاً لتصريحات (علي خامنئي) مرشد الثورة الإيرانية، الذي ما زال يؤكد أن الثورات العربية قد استلهمت الثورة الإسلامية الإيرانية، وبالتالي سعى النظام في سياسته الخارجية أن يسارع بتقديم الولاء السياسي خاصة لمصر، وكان الوفد هو النموذج الأمثل الذي يُروَج له إعلامياً الآن بوصفه دليلاً على أن الثورة الإيرانية هي النموذج الأمثل للتطبيق في مصر، رغم تصريحات بعض الأفراد المشاركين في الوفد التي تنفي أي علاقة بين الثورتين حتى تلك التي قيلت أمام الرئيس أحمدي نجاد نفسه أثناء مقابلته الأولى لهم، إلا أن الذي يتم الآن بالفعل عكس تلك التصريحات تماماً، فهذه الزيارة قد أعطت مسوغ ـ بقصدية أو بدون ـ للنظام الإيراني أن يروج على صفحات مواقعه الإخبارية أو في تصريحات قادته عن إلهام ثورتهم. ذلك الترويج يمنح النظام الإيراني شرعية ثورية جديدة، خاصة وهو في طريقه أن يتخلص من العبء الثقيل الذي احتمله طوال السنوات السبع الماضية وهو أحمدي نجاد، والذي يحاول النظام الآن أن يقدمه ككبش فداء شعبي كضمانة للاستمرار، ولهذا حديث أخر.
وكنتيجة عامة، هناك مصالح متبادلة تتم في الظاهر والباطن بين الجماعات الدينية في الداخل المصري والممثلين في هذه الزيارة، وبين النظام الإيراني، مصالح تضمن بقاء وتحقق كلا الطرفين. مما قد يشكل خطورة ما على الداخل المصري، في ظل حالة الفوضى السياسية التي تعاني منها الساحة المصرية في هذا الظرف التاريخي الحرج.
رابعاً : كرد فعل للحركة الإصلاحية الإيرانية، كتب ( حسين علي زاده ) ـ الدبلوماسي الإيراني الذي أثارت استقالته من منصبه العام الماضي وانضمامه للحركة الخضراء جدلاً إعلامياً وسياسياً واسعاً ــ مقالاً في موقع (تحول سبز) الإصلاحي، يوضح فيه عدة نقاط هامة تعليقاً على هذه الزيارة، أهمها: أن ترويج خامنئي لإلهامات الثورة الإيرانية للثورة المصرية، لا صحة له، والهدف منه ظهور النظام الإيراني بمظهر الداعم للحريات الشعبية، في حين أنه يمارس آليات قمعه كاملة على الحركة الإصلاحية في إيران. وقد جاءت تلك الزيارة لتمنح خامنئي الشرعية التي كان يسعى لها بعد الأحداث المصرية الأخيرة. ويقلل (علي زاده) من تأثير النظام الإيراني على الساحة المصرية، حتى مع محاولته الاستفادة من جماعة الأخوان المسلمين، معتبراً أن تأثير الجماعة نفسه ليس بالقوة التي سوف تغير الواقع السياسي في مصر، فالأغلبية الشعبية المصرية رغم تدينها الفطري إلا أنها غير منتمية للأخوان أو لغيرها من الجماعات الدينية التي يدعمها نظام خامنئي في الداخل المصري. بل أن الحركة الخضراء والثورة المصرية بينهما العديد من المتشابهات الأقرب منها للثورة الإيرانية منذ ثلاثين عاماً، وسوف تستفيد الحركة الإصلاحية من التجربة المصرية في المرحلة القادمة. وأشار (علي زاده) في مقاله إلى الدلالة التي تحملها قضية التجسس المتهم بها الدبلوماسي الإيراني (قاسم حسيني)، والذي سافر على نفس طائرة الوفد المصري، معتبراً أن هذه إشارة واضحة من الجانب الرسمي المصري أن العلاقات ما زالت تحت الاختبار وغير قابلة للتصعيد على الأقل في الفترة الحالية، وعلى النظام الإيراني أن يفهم تلك الرسالة بوضوح، بدلاً من محاولاته الترويجية التي لن تفضي إلى نتيجة في إطار تطوير العلاقات بين البلدين. وبالتالي تكون النتيجة أن خامنئي يحاول إنقاذ نظامه الذي قرُب على التداعي مستغلاً الوفد المصري وزيارته.

منتهى القول، أن النظام الإيراني يحاول وكعادته الاستفادة من مجمل الأحداث السياسية حتى خارج حدوده لتنصب في قالبه، في مقابل تغيب الصالح المصري الذي لا يملك الآن سواء داخلياً أو خارجياً أدوات الصراع أو المنافسة أو حتى التوافق مع النظام الإيراني، فالنظام في إيران يحاول استغلال الداخل المصري، لتحقيق مصالحه الخاصة جداً. مستفيداً من تاريخ وأطماع البعض، وطموحات أخريين، وانعدام رؤية إستراتيجية واضحة للدولة المصرية. فالعلاقات المصرية الإيرانية لن تعود بوفد لا يمثل إلا نفسه يحاول فرض وصايته على الشعب والدولة المصرية، أو الدعاية الإعلانية والإعلامية، أو بمحاولة البعض اكتساب شرعية دينية وسياسية لتأسيس دولة مصرية تعتمد ديكتاتورية حكم الفرد المطلق كما الحال الإيراني. بل بتأسيس سياسي واقتصادي طويل الأمد، يقوم على الندية المتبادلة، ولن يتم ذلك بشكل كامل إلا بعد تأسيس مصر جديدة مستقلة تكتمل فيها عناصر الديمقراطية والحرية التي سترفع وصاية جماعة أو تيار ما عن مجتمع يأمل أن يستفيد من تجارب المجتمعات الأكثر تحضراً، ولا يُفرض عليه أن يعود لنقطة الصفر من جديد.

أكاديمي مصري
.co.ukahmedlashin@hotmail