لكنه.. إن يحن الموت
فداء الوطن المقهور والعقيدة:
فر من الميدان
وحاصر السلطان
واغتصب الكرسي
وأعلن الثورة في المذياع والجريدة...

صورة المشير على حائط مجمع التحرير

سؤال على هامش الأحداث: هل يملك وطن كمصر له تاريخ أصيل من الحكم العسكري، بداية بمماليك اشتريناهم ليخدمونا، فحكمونا، وأتبعناهم برضوخ لحكم عثماني، أعلن القوة والقمع شعاراً إلتزمنا نحن به لنهاية المطاف، مروراً بمحمد علي الذي حملناه فوق رؤوسنا بكامل إرادتنا، فحقق أطماعه هو وأسرته بدماء المصريين.. وصولاً لانقلاب العسكر في 1952، فحمّلونا ما لا طاقة لنا به، من هزائم عسكرية وأيدلوجية وفي النهاية اجتماعية ـ رغم يوطوبيا ناصر، وحلم النهضة الصناعية والقومية، ولكنها أحلام كانت تحتاج إلى ظرف تاريخي مختلف ـ هل يملك وطن كهذا مشروع نهضوي مدني يُعلي من شأن فرد يملك أدنى حقوقه في الحياة؟!!.
ليس معنى سؤالي نفي الأدوار التاريخية التي قام بها العسكر على خلاف أشكالهم وأجناسهم، بداية بالصد المملوكي للمغول، أو القناطر الخيرية في العهد العلوي، وصولاً للسد العالي، وغيرها من الانجازات التي نحتناها على جباهنا وفي وجدان أطفالنا، متناسين تماماً أن أي انكسار أو انتصار دفعنا ثمنه من أجيال ودماء، لتُنسب في النهاية لصالح النخبة العسكرية، التي اعتدنا أن نمجد سطوتها، وكأننا نعادي أنفسنا.
طوال قرون ونحن محكومون بسماء القوة، ولم نعرف أو نتعرف على سماء العدل إلا حينما تقرر القوة أن تكون عادلة. وهذه هي مأستنا الخاصة جداً، والتي ما زلنا نعاني منها للأن، فتاريخ وجداننا الشعبي تشكل على مبدأ عبادة الأقوى، وهنا مكمن الخطورة الحقة على أي مشروع للدولة المدنية أو دولة العدل والقانون كما يحلم بها المصريون بعد ثورة 25 يناير. مما يفسر لنا غياب أي كيان فكري أو سياسي واضح يفرض نفسه على ساحة ميدان التحرير، خاصة بعد مرحلة التجريف الاجتماعي الذي استمر لعقود.
فما يحدث الآن في التحرير من ثورة على سطوة المجلس العسكري، على مبدأ القوة إن شئنا التعبير، يعد امتداداً طبيعياً لرفض مبدأ التبني الذي رفضه الميدان منذ البداية، حتى وإن كان تبيناً لمبادئ الثورة كما ساهم المجلس في بداية الأحداث، وإلى الأن كما يعلن. فالتحرير قرر أن يفتح ملف حساب تاريخي لكل من ساهم يومياً في تغيبه أو استغلاله، قرر ألا ينسب تضحياته وانتصاراته إلى العسكر لأول مرة في تاريخه، والأهم أن شعب التحرير الآن ليسوا النخب الذين يقبلون التفاوض أمام بعض المكاسب اللحظية، أو الصفقات السياسية التي لا تنتهي، بل يكاد بعضهم لا يدرك وجود من عينوا أنفسهم أوصياء على الثورة المصرية في الفضائيات و الصحف، فما يواجهه المجلس العسكري هذه المرة ليسوا الأخوان ـ الخاسر الأكبر في ميدان التحرير ـ أو الأحزاب أو القوى السياسية على خلاف أفكارها ومشاربها ومصالحها، بل أناس قرروا أن يقاوموا لأول مرة رغبتهم الجارفة في الاستسلام لمبدأ القوة كما اعتادوا، زوار جدد للميدان خرجوا من شقوق الأرض المصرية، بعد أن فشل الجميع في رؤيتهم، ليقفوا أمام كاميرات المجلس العسكري والإعلام، يعلنوا عن وجودهم أحياء. حتى وإن تصدر المشهد بعض المتاجرون بدماء البسطاء وأحلامهم، فهذا لا يعني أنهم وحدهم على ساحة الوجود، فمن لا يدرك حقيقة أن انتفاضة يناير قد أخرجت أشباح الدويقة وقطار الصعيد وسكان المقابر كتطور بديهي لإهمال نظام مبارك وحكومة الثورة حتى المجلس العسكري الذي انشغل ببيانات الفيس بوك، فعليه الرحيل الآن من الميدان وفوراً، فهؤلاء لم يعد لديهم ما يخسروه.
والأهم أن المجلس العسكري لم يقدم في بيانه الصدامي الأخير أي حل يحتوي المشهد السياسي والاجتماعي المشتعل، بل أنه ساهم بلهجته التي تعكس طبيعته الحقه و التي حاول إخفائها مراراً في سياق التهدئات السياسية، في مزيد من الاشتعال، فحسمه أنه باقٍ في السلطة كنتيجة طبيعة للاستفتاء الذي تم على مواد الدستور وليس على بقائه من عدمه!!، زاد الأمور تعقيداً، وحوّل من مارس حقه في رفض التعديلات الدستورية إلى مخالف للشرعية العسكرية التي تفرض نفسها على الساحة السياسية بقوة. ذلك الحسم الذي لم نلمحه والبلاد على مشارف فتنة طائفية، أو في حالة الغياب الأمني ومجتمع يحكمه البلطجية والأشقياء. أو حتى في قضايا قتل المتظاهرين، وحق أهالي الشهداء. فالمجلس العسكري قرر أن يكشر عن أنيابه حينما تحولت دفة التظاهرات ضده وضد وجوده على رأس السلطة.
والحق أنه في ظل ميادين التحرير التي ترفض سلطة المشير كرمز للسطوة العسكرية، وحكومة مقيدة الإمكانيات والصلاحيات، ونمط تفكير لا يختلف في بنيته أو عمقه عن نظام مبارك، وشعب يعاني اقتصادياً وينتظر انفراجة سياسية تزيح عن عينيه ضبابية الشهور الست السابقة. أصبح من الضروري أن يظهر مشروع سياسي مدني، لا يعتمد على عبادة الفرد، فلن يظهر لنا مخلص نقي طاهر يتحمل عبئ التغير منفرداً ويأتي لنا بمفتاح الجنة، فما أقصده هو مشروع متكامل يحتوي مطالب شعب ما زال يعاني، وينفث معاناته هتافاً ودماً، تتوحد خلفه مختلف القوى السياسية، وتتبناه النخبة المثقفة بدلاً من تبنيها لمكاسبها الشخصية واللعب على كل المسارح، مشروع طموح قد يكون الأول في تاريخنا المصري، ولكنه هو الضرورة الوحيدة الملحة الآن، فانتفاضة ميدان التحرير لم تقدم أو تفرز قيادة أو أيدلوجية واضحة الملامح، تستطيع أن تقدمها كبديل أمام ما يفرضه المجلس العسكري.
يا سادة كفانا ثنائيات مضللة، وانقسام حيناً على مبارك ونظامه، وآخر على الاستفتاء، ونهاية على سلطة العسكر، فالحقيقة أننا نُقسّم بلداً، فلنتوحد على قلب وطن واحد، يحتاج ما تبقى من إيماننا بسماء العدل، بعد قرون عبادة القوة، وإلا ستكون نهايتنا كبدايتنا، وسنعود ثانية للمربع رقم واحد، هناك حيث تتساوى الأطراف. وسيظل السؤال معلقاً إلى حين أن تقدم له الأحداث إجابة حتمية.

قلت لكم مراراً
إن الطوابير التي تمر
في استعراض عيد الفطر والجلاء
(فتهتف النساء في النوافذ انبهاراً)
لا تصنع انتصاراً......
(أمل دنقل، 1970)


أكاديمي مصري
ahmedlashin@hotmail.co.uk