يوم الجمعة 4 / 2/ 2011 كتبت في مقال لي على إيلاف، بعنوان (غضبة الحرافيش قدر جيل مصري جديد)
الآتي : quot; في مجتمع فاسد من الأساس لابد وأن يحتوي الميدان كل عناصر الاستغلال، من تيارات سياسية فاشلة عاشت طوال عقود على فتات موائد النظام الحاكم ، أو حركات احتجاجية جديدة أغلب رموزها يديرون المعركة من عالم خارجي آخر بعيداً عن أرضنا القاحلة، أو تيارات دينية سياسية متفشية في كل مظاهرنا الاجتماعية، سواء من اجتهد طوال سنوات لعقد صفقات مشبوهة مع الأجهزة الأمنية كالأخوان الذين ظهروا بمشاهد منظمة في التظاهرات الأخيرة، أو من سيطروا على الفكر الاجتماعي كالتيار السلفي وغيرهم، فأضافوا على المشهد عبثية لا تليق بغضب جيل بأكمله quot;.

كان تحذيري واضحاً منذ البداية، خاصة مع تعدد المظاهر السلبية التي قام بها التيار الديني المصري خلال الأشهر السابقة بعد انتفاضة يناير، بداية بالتوافقات مع القوة العسكرية وصولاً إلى فوضى الشارع وتجاوز القانون، كانت معركة الجماعات الدينية على اختلاف توجهاتها في تلك المرحلة تتجاوز مرحلة إثبات الوجود إلى تحقيق السطوة الكاملة على مقدرات المجتمع ككل. في مقابل تخاذل واضح وصريح من مختلف التيارات المدنية، التي أثبتت فشلها في قيادة الرأي العام أو تكوين جبهات تتمكن من مخاطبة مختلف الطبقات الاجتماعية، وتوالت التحذيرات والتحليلات من كل عقلاء هذا الوطن، والتي كانت أغلبها بالطبع موجهاً لأصحاب الدعاوي الليبرالية والمدنية، ولكن كأننا كنا ننحت على سطح الماء، وجاءت النتيجة بديهية جداً ، وغير مفاجئة على الإطلاق، ومن يدعي عكس ذلك فهو كائن يحيا على كوكب أخر.
فحينما إنطلقت رموز وأحزاب التيار الليبرالي لتبحث لها عن مجد شخصي، أو بيعة للمجلس العسكري تتبرأ منها بعد ذلك، أو تحالفات لا تتعدى صالونات الأحزاب و الفضائيات و قصور رجال الأعمال، ومقاهي المثقفين، كانت الأحزاب ذات المرجعية الدينية وعلى رأسها حزب الأخوان الحرية والعدالة، ينظم المجتمع ككل لصالحة، بشتى الوسائل ومختلف الأساليب، المباح منها وغير المباح، بداية بسرادقات اللحوم، وعطايا رمضان، ورحلات الحج والعمرة للطبقات الكادحة، مروراً بتقديم أنفسهم كحل أخلاقي ممتاز للطبقة الوسطى التي تعاني فصام أخلاقي أصيل، فتمارس الانحلال وتدعي الفضيلة، وتحلم باستهلاك لا ينتهي، وصولاً لخطاب سياسي وقدرة على التفاعل مع مختلف التيارات، بل أن قائمة الحرية والعدالة ضمت تحتها عشرة أحزاب أخرى أغلبها لا يحمل نفس الأيدلوجيا، ولكنها لا تحمل أي وسيلة أخرى للتواصل مع الجماهير، ففي الوقت الذي قدمت فيه الأحزاب ذات المرجعية الدينية خطاباً متوازناً ودعاية تبدأ من أغاني الراب، إلى السلع الاستهلاكية، كانت الأحزاب الليبرالية تقدم فكراً متشظي وخطاباً مفتتاً لا يسمن ولا يعني.
فنجاح الأخوان وحزبهم السياسي في المرحلة الأولى من الانتخابات والتي تضم القاهرة والإسكندرية، سيزداد إشتعالاً في بقية المحافظات التي أبت بقية الأحزاب الليبرالية أن تتفاعل معها إيجاباً، أو أن تهبط من عليائها لتخاطب الناس بما تعودوا أن يسمعوه، في حين كانت التيارات الدينية توظف المساجد والزوايا والمقاهي لتقديم نفسها بوصفها المخلص الأخير لما تعانيه مصر من فساد وجوع، خاطبتهم بمنطق لقمة العيش المغموسه برضا الله. أعلنتم تعاليكم فتعالى الناس عنكم. واكتمل مشروع تمكين الجماعات الدينية في الشرق الأوسط، بداية بتونس وانتهاءً بمصر، وأنتم في بروج مشيدة تتقاسمون وتنقسمون، ولكن الناس لا يفقهون تقسيمكم.
حتى التيارات الراديكالية المتشددة والمتمثلة في التيار السلفي، أصبح يُقدم تشددة في مقابل تسيب مفترض في التيارات الليبرالية والتي لم تجتهد لتحسين وتوضيح صورتها الحقة، ولنا في محافظة الأقصر التي لم يخشى أهلها دعاوي بعض دعاة السلفيين بهدم الآثار وتوقيف السياحة، وانتخبوهم بقوة واكتساح، ودائرة المنتزه في الإسكندرية التي انتخبت أشد الدعاة تشدداً، الذي كان يُكفر الديمقراطية ليصعد بها إلى قمة العمل السياسي ثم يحرقها. يا سادة إن ثقافة الصالونات المغلقة لن تهزم شعبية صوان يُقام أو خطبة جمعة في مسجد يخطب فيه شيخ، ويدعو الناس لانتخاب من يمثل الدين القويم.
فالقضية أكبر من مجرد تحالفات الأخوان والسلفيين مع العسكر كما تزعمون، فالأحزاب الليبرالية كان أسرع وأقرب في محاولات عقد الصفقات السياسية مع السطلة العسكرية، وقدمت من التنازلات ما لا يطيقه بشر، ولكن دون فائدة ترتجى، لأنها كانت محاولات تعبر عن كل تيار منفصل عن الآخر، تحمل في طياتها تخوينات سياسية وإقصاء لفصيل ليبرالي أو مدني مختلف. القضية في وعي الأحزاب المدنية بطبيعة الشعب المصري، الذي لا يهمه غلق البارات أو الشواطئ، أو كما تحاول بعض القنوات الإعلامية تقديم ملابس البحر بوصفها هدف كل مصري، فمعظم المصريين لم يروا سوى نهر النيل، ولم يفكروا يوماً في الذهاب إلى مدنكم الشمالية البعيدة، بل في الأمان الذي يحلم به المصريون حتى لو كان أمان اليوم الواحد.
المجتمع المصري التي تحددت هويته الحالية في نزعة ماضوية محصورة في فكره عن الدين، ليس بالضرورة أن يكون التدين الشكلي السلفي أو البرجماتي الأخواني، ولكنه في المنتهى سوف يختار من يراه قريباً إلى فكرة أو شبيهاً له، في مقابل غياب أي مشروع وطني حقيقي يضمن لهذا المجتمع أمانه أو تدينه. فالمجتمع الذي امتدت طوابيره لكيلومترات أمام صناديق الاقتراع، مدفوعاً بثقافة الحشد والاحتشاد، وخشية أن تطبق عليه غرامة مالية وهمية، حينما ينفرد بذاته سوف يختار من ألفه، واعتاد رؤيته في الطرقات والمساجد، وليس من يخرج عليه من آن لآخر أمام شاشات التلفاز يخاطبه من علياء المعرفة.
فطبيعة الوعي المصري الذي لم يعتاد الاختيار طوال عقود، ودائم البحث عن سلطة أبوية تحتل مكان الغائب الذي سقط رغماً عنه، حينما يُطلب منه فجأة أن يُغير العالم من حوله، وأن يختار من يمثله في أصعب مرحلة تمر على الحياة السياسية المصرية، فمن البديهي أنه سيختار الأمان المتمثل في الدين كما جُسد له، ولن يختار من يعرض عليه الحرية دون أن يقدم له مشروع متكامل يضمن له قوت يومه على الأقل.
وبعيداً عن تباهينا بكثافة عددية كغثاء السيل، وتباكينا على ضياع الفرصة الأخيرة، ومحاولات ممارسة بعض الحيل الدفاعية من قبيل المؤامرات والتزوير، فعلينا أن نعلن جميعاً أننا قدمنا مصر المدنية على مذبح مطامعنا وفشلنا، ولن يصبح أمامنا خلال الفترة القادمة على الأقل إلا اختيارين لا ثالث لهما، إما قوة العكسر أو سطوة الأحزاب الدينية، خاصة وأن ميدان التحرير أصبح كجزيرة منعزلة، هجره رجاله بحثاً عن مقاعد برلمان لا حول له ولا قوة، وصفقات السياسة الفاشلة.
وللحديث بقية!

أكاديمي مصري