quot;إن كان هناك مناخاً حراً..لما كان كل هذا الفسادquot; (محمد خاتمي)

تعتمد بنية النظام الإيراني على تناقض أصيل، تقديس الفرد وحاكميته المطلقة والمتمثل في الولي الفقيه أو مرشد الثورة، والجمهورية الشعبية التي تعتمد على حكم الشعب لنفسه بنفسه، وأحقية المجموع في تحديد مصيره. تلك الإزدواجية السياسية بين وجوبية الإذعان للقدر الإلهي الذي اصطفى نائب الإمام ليُسيّر أمور الرعية، والحرية الدنيوية في الاختيار، تُحول الساحة الإيرانية إلى نقطة اشتعال دائم بين مختلف التوجهات والمصالح.فالجمهورية الإسلامية مشروع متعارض مع ذاته، فرغم ما يبديه من تماسك ظاهري، إلا أنه فصامي معرض للانهيار في أي منعطف تاريخي يكشفه، ويفضح تناقضه.
وما تتعرض له الساحة الإيرانية الآن يعتبر من تجليات هذا الفصام السياسي، فتصريحات آية الله علي خامنئي أثناء رحلته إلى محافظة كرمانشاه عن إحتمالية إلغاء منصب رئيس الجمهورية، أو تحويل انتخابه من انتخاب حر مباشر، إلى انتخاب يتم بواسطة مجلس الشورى وتتحكم فيه الأغلبية البرلمانية، فيما يشبه نظام الحكم البرلماني، جاء صادماً لمختلف التيارات السياسية في الداخل الإيراني.فمجرد طرح الفكرة على لسان الرجل الأول والأخير بالمناسبة في النظام الإيراني، يمنحها شرعية التحقق، أو على الأقل إمكانية النقاش الجاد داخل دوائر صنع القرار. والأهم أنها تعكس انتصار الجانب الديني المقدس على الجانب السياسي المتمثل في رئاسة الجمهورية.
والغريب أن هذه الفكرة قد طرحت قبل ذلك على لسان أحد النواب في مجلس الشورى، ولم تحظى بالطبع بنفس درجة الاهتمام التي حظيت بها لدى طرحها بواسطة مرشد الثورة الإيرانية وحاكمها الأصيل، فقد صرح (حمید رضا کاتوزیان) عضو مجلس الشورى و المحسوب على التيار المحافظ منذ ما يقارب ثلاثة أسابيع قائلاً : quot;إن بلدنا يرفل في نعمة ولاية الفقيه وقائد الثورة العظيم، فلسنا في حاجة إلى رئيس جمهورية، وإن لزم الأمر سلطة تنفيذية سيتم انتخاب رئيس وزراء عن طريق مجلس الشورى quot;. أي ان الفكرة مطروحة للنقاش و الترويج السياسي قبل تصريحات خامنئي، مما يدل على جدية الطرح وإمكانية تحققه.
إزدواجية المرشد والرئيس :
منذ قيام الجمهورية الإيرانية الإسلامية عام 1979، وهناك جدل دائر حول صلاحيات منصبي المرشد (الولي الفقيه) ورئيس الجمهورية، لدرجة عزل وهروب أبو الحسن بني صدر أول رئيس جمهورية بعد الثورة، مروراً بإغتيال محمد علي رجائي في حادثة تفجير مجلس الوزراء والتي اُتهمت فيها منظمة مجاهدي خلق عام 1981، أي بعد مرور أقل من عامين على قيام الثورة الإيرانية، وصولاً لرئيس الجمهورية الحالي أحمدي نجاد، والذي أشتعلت إيران داخلياً في عهده بسبب توجهاته المتشددة وصراعه مع المرشد خاصة في فترته الثانية، التي شهدت نمواً قوياً للتيار المحافظ والمتمثل في رجال علي خامنئي، وفي المقابل التيار المتشدد لنجاد وأنصاره داخل المؤسسة العسكرية، مما مثل خطراً حقيقياً ليس فقط على هيبة المرشد وصلاحياته، بل على النظام الإيراني ككل، خاصة بعد فضيحة الاختلاسات والمتهم فيها مباشرة رجل نجاد الأول وصهره (اسفنديار مشائي)، مما حتم أن تتطور الأحداث لصدام مباشر بين السلطات في إيران، بداية بسلطة المرشد، والسلطة التشريعية والمتمثلة في البرلمان من جانب، ومؤسسة الرئاسة من جانب أخر أو السلطة التنفيذية، تبعاً لوضعيتها الدستورية. مع الإشارة إلى تراجع القوى الإصلاحية بمختلف رموزها بعد وضع مير حسين موسوي ومهدي كروبي رهن الإقامة الجبرية، والحد من نفوذ هاشمي رفسنجاني الذي كان حجر العثرة الوحيد أمام أطماع نجاد.
فالصراع على صلاحيات المرشد ومكانته السياسية والدينية، ونفوذ وصلاحيات رئيس الجمهورية، أخذ شكله الصدامي في عهد أحمدي نجاد.فمنذ وصول آية الله الخميني لسدة الحكم في إيران، وصولاً للتعديلات الدستورية عام 1989، والتي تمت بعد وفاة الخميني، لم يكن قد حُسم بعد أمر صلاحيات الولي الفقيه، فنظرية الخميني عن الولاية المطلقة للفقيه، وسلطاته اللامحدودة، كانت مثار لجدل طويل بين مختلف آيات الله الكبار، أمثال آية الله حسين منتظري، وآية الله شريعتمداري، واللذان عارضا بقوة فكرة الإطلاق، خاصة منتظري، وكانت نتيجة ذلك وضعة تحت الإقامة الجبرية وعزلة من منصب نائب المرشد.إلا أن تلك الخلافات ما كانت لها أن تؤثر بشكل جذري في بناء الثورة الإيرانية، فكاريزمية الخميني ومكانته في الحوزة كانت كفيلة بتنحية أي خلاف واعتباره هامشياً، ولكن أفكار الخميني عن سلطة رجال الدين، وعدم تنحيتهم مرة أخرى عن الحياة السياسية كما تم في عهد الشاه، جعل الولاية المطلقة للفقيه تظهر ثانيةعلى ساحة التشريعات السياسية خاصة في أواخر حياته، وبعد وفاته، فأتت صياغة دستور 1989 وقد أقر تماماً ولاية الفقيه المطلقة.
الغريب في الأمر أن علي خامنئي حينما نال منصب المرشد كان لم يحصل بعد على لقب آية الله، بل كان حجة الإسلام فقط، مما شكل خطراً حقيقية على مكانته السياسية النابعة من هيبته الدينية ونفوذه في الحوزة، وقد كان هذان العنصران مفتقدين بشكل ما لدى خامنئي، لذلك رغم تمتعه بسلطته السياسية كاملة، إلا أنه لم يحقق نفس تلك المكانة داخل السياق الديني، والتي كانت سبباً في نفوذ الخميني وكاريزميته، فظل خامنئي مجرد مرجع تقليد من ضمن عديدين لهم نفس مكانته الدينية أو أكثر.ولكن كان لهاشمي رفسنجاني الدور الأكبر في تولية خامنئي منصب المرشد، وكذلك دعمه السياسي له طوال تولي رفسنجاني منصب رئاسة الجمهورية، فرفقة الجهاد الثوري والتتلمذ على يد آية الله الخميني، جعل للتاريخ كلمته بينهما، خاصة لما يتمتع به رفسنجاني من نفوذ اقتصادي على البازار (السوق التجاري) الإيراني، فرغم الخلافات التي وقعت بين كليهما في إدارة الملف الإقتصادي بين رأسمالية رفسنجاني، وخشية خامنئي على تفاقهم الهوة بين أصحاب رؤوس الأموال وبقية الطبقات الدنيا، إلا أن الإدارة بطريقة رفسنجاني عادت بدعم قوي من البازار لخامنئي، فمارس صلاحياته المطلقة في أمان نسبي.
إلا أن تلك السياسية الاقتصادية أدت إلى أزمات ملموسة على رجل الشارع، خاصة وإيران كانت تعاني من حرب الثمان سنوات التي إستنفذت مواردها إلى أبعد مدى. مما أدى إلى تعرض النظام بشقه الديني تحديداً إلى محنة جديدة، فأي اعتراض يوجه للنظام إنما يوجه للدين بشكل عام، بوصف أن رأس النظام يأتيه العلم باطنياً مدعوماً من قبل الإمام المهدي شخصياً، وبالتالي أصبح من اللازم أن يتخذ الإطار التنفبذي للدولة شكلاً جديداً، خاصة مع نمو التيار الإصلاحي الذي مثلت انتقداته الأديدولوجية لصلاحيات الولي الفقيه المطلقة، طوق نجاة للشارع والنظام معاً.
فجاء محمد خاتمي ومعه جملة من المثقفين ورجال الدين المستنيرين ذوي التوجه الإصلاحي أمثال (عطا الله مهاجراني ) و( عبد الله نوري) ليتحملوا عبء مرحلة جديدة، يحافظ بها خامنئي على مكانته ونفوذه السياسي وبعض هيبته الدينية، فأثبتت مرحلة خاتمي فشلها على كل المستويات الإقتصادي منها تحديداً، وأنتهت مرحلة الإصلاح بأزمة الطلاب عام 1999، وصدامهم مع الأمن، بعد غلق إحدى الصحف الإصلاحية (سلام)، وبعد حملة التصفيات الجسدية التي قام بها النظام ضد بعض رموز التيار الإصلاحي، وانتهت هذه المهزلة بفقدان التيار الإصلاحي لأي نفوذ ممكن في الشارع بعد حالة الفوضى، وظل خامنئي بقداسته الدينية بعيداً عن أي ضرر ينال من وجوده ونفوذه السياسي الكامل.
فعلاقة المرشد والرئيس هي تجلي آخر لإزدواجية الجمهورية الإسلامية، ودائماً ما يقدم الرئيس نفسه على مذبح الولي الفقيه خفاظاً على الكيان المقدس للدولة الثيوقراطية التي تدعي الديمقراطية والحرية.فخامنئي قد استخدم في فترة رئاسة خاتمي كل حنكته وخبرته كرئيس جمهورية سابق في عهد الإمام الخميني، ليستنفذ كل التيارات السياسية في صراعات داخلية تصب في مصلحته واستمراريته. لتأتي في النهاية المرحلة الأخيرة من الصراع الكلاسيكي، حينما قدم خامنئي أحمدي نجاد بوصفه المخلص الجديد للساحة الإيرانية.
نجاد الصراع ونهاية الدولة:
كتب (مجتبى دانشطلب ) أحد المنتمين للتيار المتشدد والمؤيدين للرئيس أحمدي نجاد، رسالة على مدونته الخاصة أثارت غضباً شديداً في كل أوساط التيار المحافظ الموالي لخامنئي، خاصة أن الرسالة موجهة مباشرة إلى المرشد وتحمل سخرية شديدة اللهجة من موقف خامنئي وتصريحاته الأخيرة، فقد اعتبر أن ما يدعو له خامنئي مستحيل الحدوث، والأمر أكثر تعقيداً مما يظن، فالحد من صلاحيات الرئيس أو تغير آلية انتخابه سيمر بالعديد من المراحل يجد فيها خامنئي صعوبات لن تكون جميعها تحت نفوذه.
عسكت تلك الرسالة بشكلها الساخر الأهداف الرئيسية التي يسعى إليها نجاد وأتباعه، وهي ترشيح أحد الموالين لنجاد في الانتخابات الرئاسية القادمة، خاصة أن الدستور الإيراني يمنعه من الترشح لفترة ثالثة، وقد كان الأقرب للقيام بهذه المهمة، (اسفنديار مشائي ) رغم كل ما وجه له من انتقادات واتهامات تبدأ بالتكفير والتخوين ولا تنتهي عند الاتهام بالفساد المالي والإداري. فرغم محاولات التيار المحافظ وعلى رأسهم المرشد أن يحدوا من نفوذ نجاد السياسي خاصة على الجانب العسكري المتمثل في إطلاقه ليد الحرس الثوري لدرجة جعلته لاعب أصيل على الساحة السياسية والاقتصادية، إلا أن نجاد ما زال يعتمد على أرضيته الشعبية التي شكلها من العامة والبسطاء خلال السنوات الماضية، وكان لها أكبر الأثر في تفوقه على منافسيه في انتخابات 2009، خاصة بعد نجاح خامنئي في استمالة العديد من القيادات العسكرية تحت سقف الولاء المقدس من جانب، والوعد بالحفاظ على المكاسب التي حققها العسكر خلال فنرة رئاسة نجاد من آخر، فضمن حيادهم على الأقل خلال المرحلة القادمة.
فالخلفية العسكرية لنجاد، وبعده عن التيارات الدينية الرسمية، رغم تربيته الدينية المتشددة خاصة على يد آية الله مصباح يزدي الذي يُعد الأب الروحي لنجاد، جعلت منه بعيداً عن فكرة الولاء المقدس لشخص خامنئي، بل قرر أن يعامله معاملة ندية كما تشهد العديد من الأحداث، فرغم دعم خامنئي لنجاد في بداية عهده، و طرحه على الساحة ليكون الرئيس الموالي بشكل كامل له، إلا أن نفوذ نجاد وطموحاته الشخصية جعلته خارج السيطرة، بل والأهم أنه تمكن تدريجياً من الحد من نفوذ الحوزة السياسي، والتخلص من معارضيه أمثال موسوي وكروبي، وظل التيار المحافظ هو الحجر الأخير، ليجعل من خامنئي مجرد رمز ثوري لا يمتلك أي نفوذ حقيقي على الساحة الإيرانية.فجاءت تصريحات خامنئي الأخيرة صادمة للجميع على كافة المستويات، فالقضاء على نجاد والتخلص منه ومن مؤيديه نهائياً لا يعني شيئاً سوى القضاء على مفهوم الدولة أو الجمهورية، هكذا طرح خامنئي الحل الأخير لينقذ نفسه ومن بعده سطوة رجال الدين الذين ركبوا الثورة الإيرانية واستفادوا منها بشكل كامل في تأسيس وجود جديد يضمن لهم البقاء والنفوذ.
فمع غياب أي بديل سياسي الآن، يجب أن تعود اللعبة في جعبة رجال الدين أو الجانب المقدس من الثورة، فإن تم ما أعلنه خامنئي من انتخاب لرئيس الجمهورية كمنصب تنفيذي محدود السلطات سيقوض من الجانب الديمقراطي في الدولة، بحيث تنتفي فكرة الاختيار الشعبي، أمام سطوة البرمان الذي يتم تصفية مرشحيه قبل خوض الانتخابات من قبل مجلس صيانة الدستور، والذي يُعين نصف أعضائه من قبل رئيس السلطة القضائية، وهو المعين سلفاً من قبل المرشد مباشرة، أي أن مجلس الشورى يتم تصفيته قبل بدايته لصالح التيار المحافظ الموالي للمرشد. وبالتالي سيكون انتخاب أو اختيار القائم على السطلة التنفيذية سواء رئيساً للجمهورية أو الوزراء من قبل الأغلبية المساندة للنظام بشكله الحالي. وعلينا ألا ننسى تجربة إلغاء منصب رئيس الوزراء منذ عام 1989، والتي كان المتسبب فيها خامنئي أيضاً بعد صراعه مع مير حسين موسوي أخر رئيس لوزراء في إيران، والذي مثل الآن رمزاً للإصلاح والحركة الخضراء، التي ترى في تصريحات خامنئي عودة إلى نفوذ وتقديس الفرد بلا منافس، وأن خامنئي يحافظ على سلطانه الواسع، مما يطيح يأي حلم للإصلاح، خاصة وإيران على مشارف انتخابات برلمانية خلال العام القادم ستكون هي حلبة الصراع الرئيسي الفترة القادمة.
وسواء تم تنفيذ ما صرح به آية الله خامنئي أم لا، إلا أن الدلالة الخطيرة في هذا الأمر، أن النظام الإيراني يحاول أن يقضي على المظهر الأخير من مظاهر الديمقراطية رغم شكليتها، إلا أنها تمثل تنفيساً شعبياً، يمارس فيه المجتمع ولو جزئياً مساحة حرية مزعومة، ولكنها ضرورية حتى يحافظ على إتزانه السياسي، وإلا ستكون عواقب الانفجار وخيمة، فكما مثلت انتخابات الرئاسة القادمة مجالاً للصراعات السياسية بين مختلف التيارات، فهي تمثل مجتمع يمارس حضوره بعد سنوات نفيه، خاصة على خلفية الثورات الشعبية التي تجتاح المنطقة بشكل عام، ولكن النظام الإيراني قرر أن يحافظ على ردائه المقدس أمام أي محاولة للإصلاح السياسي، لينهى حالة الصراع بين الشق الديني أو الولي الفقيه، والشق السياسي المتمثل في الرئيس.


أكاديمي مصري
[email protected]