مصادفة أن تنفجر المصادمات الدموية أمام مجلس الشعب، ولكنها ذات دلالة، فذلك المجلس الذي تكالبت عليه جميع التيارات والأحزاب، فضحوا بكل غالي ورخيص، للحصول في النهاية على مجلس منزوع الصلاحيات، في وطن معدوم الإمكانيات، وفي المنتهى ستتحول جلساته إلى ساحة صراع الديكة، بين أصحاب اللحى ومدعي مدنية الدولة.
الأهم أن كل ذلك جاء عن طريقين لا ثالث لهما ـ بعيداً عن دعاية الحرية والديمقراطية ـ الأول التلاعب بأحلام مختلف طبقات الشعب الذي يسعى لراحة البال قبل استقرار الأحوال، فيذهب إلى الصندوق عله يجد ما يشفي نفسه الحائرة على أعتابه، وتلك آلية تلاعب التيار الديني. والثاني وهو الأهم دماء العشرات من شباب هذا الوطن الذين لا ذنب لهم سوى أنهم أبناء ظرف تاريخي يتسم بالعبث وصراع المصالح بين مختلف الأطياف، بداية بالعسكر والتيار الديني السياسي، وصولاً للأحزاب والتيارات الهشة، مصالح لا ولن تتصالح مع صالح البلاد والعباد.وتأتي موقعة مجلس الشعب وغيرها من المجازر، لتصفعنا بحقيقة أننا ما زلنا عند نقطة الصفر، وأن انتخابات المجلس، لا تتعدى اختيار مُخرج لطاقم ممثليه على مسرح هزلي، وأننا شعب لم يتعلم بعد أن يتوافق حول آلية واحدة يحتكم إليها ويعتمد عليها، فعقلية الطفل العابث ما زالت هي المتحكمة في مصيرنا.والدليل ذهابنا جميعاً لنغمس أصابعنا في أحبار الصناديق، دون أن ندرك حقيقة أننا بلا دستور حقيقي ينظم شؤوننا السياسية والاجتماعية، وبالتالي على أي أساس اخترنا وقررنا وأقمنا هذا قيّماً وذاك نائباً.
الشعب ـ وأنا منه ـ الذي يتعامل مع الأعياد القومية بوصفها أيام للأجازات، ويكاد لا بتبين كونها إجازة الثورة أو العبور إلا من خلال أفلام السينما أو تصريحات المسؤولين، من الصعب أن يُستأمن الآن على مصيره أمام صناديق الانتخابات أو كما أراها أنها صناديق للموت، فكما شارك نفس هذا الشعب الذي أسموه عظيماً في مهزلة استفتاء مارس السابق، فمنح الشرعية حيناً للمجلس العسكري وحيناً للتيار الديني، وقسم نفسه بين نعم ولا!..يعاود الكرة ويُمزق بقاياه شراذم وطوائف، على عدد المرشحين والقوائم، بدعوى أنه يمارس الحرية والديمقراطية في كلا المرتين، ديمقراطية الصندوق، والتي تسقط بمجرد أن يُسقط الواحد منا ورقته في صندوق، ديمقراطية مُعدة سلفاً معلبة على مقاس من أرادنا في طابور أمام المدارس كأطفال ننتظر جرس الصباح، نتوهم أننا ناصرنا هذا على ذاك، أو انتصرنا لتيار على آخر، وأراهن أن أغلب من وقف هذه الوقفة الصباحية الميمونة، قد قرأ برنامج مرشح واحد أو قائمة واحدة من كل تلك القوائم التي احتوت كل المتناقضات السياسية والفكرية، فضلاً على نسبة لا يستهان بها من الأميين الذين تم حشدهم في حافلات الأرياف والعشوائيات ليمنحوا أصواتهم لفاسد سابق أو فاسد جديد.
الشعب الذي يستهلك أضعاف ما ينتج، وإنتاجه كالزّبد يذهب فيما لا ينفع ولا يضر، ولا يمكث في أرضه إلا أطنان القمامة التي غطت عقولنا قبل شوارعنا، كيف وفجأة يُنتظر منه أن يتخذ قراراً حراً يحدد من خلاله الصالح من الطالح بواسطة صندوق أسود لا قرار له!.وأين كانت هذه الجموع الواعية المفكرة المكتفية بذاتها عن كل ذي علم، حينما طُمست ملامح هذا الوطن تحت أحذية نظام فاسد ونخبة خائبة وجهل وفقر ومرض!!، وحينما قامت انتفاضة هزت أركان النظام الفاسد، شاركت الجموع في هدم النظام واحتفطت بالفساد، لأن الحقيقة الوحيدة التي أضحت واضحة للعيان أن الفساد ربيبنا نحن وليس النظام وحده، أنضحي بمن ربيناه ومجدناه وعشقناه وعشنا تحت ظله وظلاله!!.
الشعب الذي أُصيب بحالة من البلادة أمام مشاهد القتل اليومي، الذي انتشر في الميادين لمدة أسبوع كامل يسبق ملحمة الانتخابات، فكان القتل والموت سعيراً في شارع محمد محمود، والحياة على طبيعتها في باب اللوق وطلعت حرب، أمتار قليلة، فصلت شعب عن شعب، وطموح عن طموح، ليصبح التطور الطبيعي عزل ميدان التحرير وغيره من الميادين عن مصر مجتمعة، والتي اختار شعبها صندوق الانتخابات بوصفه الحرية، مضحياً بكامل إرادته هذه المرة بصندوق الشهداء، أي عزل الثورة عن المجتمع ككل، ولنواجه هذه الحقيقة لمرة واحدة بصدور عارية، أن الثورة التي ضحينا فيها بزهرة جيل بأكلمه، تقف الآن مغتربة أمام تكيف شعبنا الأصيل مع مجازر يومية، وكأنها لا تخصه، ولا تُقام على أعتابه.
لقد أصبحت الثورة في وادٍ وشعبنا الثوري العظيم في وادِ أخر، وكل يهيم على هواه.حتى الميدان الذي قدم شباب لا حول لهم ولا قوة سوى أنهم صدقوا أحلام النخبة، تخلوا نخبته عنه لصالح كرسي المجلس تارة، أو لصالح انقسامات وحكومات مفترضة وافتراضية لا تتجاوز صحن الميدان وتفكيرهم القاصر، ومزايدات تجارة الدم.واحترق آخرون في أفران الساسة الفاشلين والقادة المتربعين على عرش السلطان المخلوع، فقد كان لابد من حطب جديد ليستمر هؤلاء في غوايتهم وأولئك في غيهم.
منحوا أصواتهم بأغلبية ساحقة لأول من نادى عليهم من فوق المنابر، والأطرف أنهم منحوها لمن لا يعرفون، فالبسطاء من شعبنا الطيب المهاود إلا على نفسه وضد ذاته، منح صوته لحزب لا يعلم أنه يمت لجماعة أشاعت الفوضى لعصور، والمدهش أنهم وبسلطة الحشد الواعي أحياناً واللاواعي كثيراً، حطموا أخر حصون حريتهم بصنع أغلبية تذكرهم بالحزب الوطني، وكأنهم ألفوه لدرجة العبادة فخلقوا غيره من عدم ليبعدوه.والقضية لا تنحصر فقط في بسطاء وأميين تم استغلالهم أسوأ ما يكون، بل تنسحب كذلك على الطبقات الوسطى المنقسمة على ذاتها الطائفية، فأختارت الممثل لتيار ديني ضد مرشح الكنيسة، وتحولت الصناديق إلى معركة طائقية تضاف إلى رصيدنا الهائل من الفتن، دون أن يُدرك الجميع أننا أنجزنا دورنا في صفقات بين القادة والشيوخ والرموز اقتصادية، بل أننا وبصدر رحب ضممنا مصر إلى مخطط يُعد بدقة منذ البداية.
وفي النهاية أنا لست ضد الديمقراطية في حد ذاتها، رغم ما يشوبها من عيوب، ولكني وبكل صراحة ضد أن يمارسها شعب تُشكل الأمية نسبته الرئيسة، سواء أمية القراءة والكتابة، أو الأمية الثقافية بمعناها الشامل، شعب مهزوم في نخبته الفاسدة، ويمارس ديمقراطيته الحرة على أساس طائفي، يتخذ قراره على هواه وليس بناءً على الصالح العام، يختار الأقرب لقلبه وليس الأصلح للمجتمع.أنا لا أمارس تجهيلاً عاماً ضد شعب فأنا منه وعليه، ولكني أضع الحقائق الأصيلة التي نلمسها جميعاً ونحاول تغييبها، لنصدق دعاية إعلامية وسياسية تستخدم آليات النظام السابق من تغييب وتزييف.
فلنصلح أنفسنا أولاً قبل أن نختار لنا مستقبل، وبعدها سواء وصل الأخوان أو الليبراليين أو العسكر إلى حكم مصر، لن تتحول إلى ديكتاتورية علمانية أو دينية أو عسكرية، فلا تضعوا العربة أمام الحصان، فبعد تتابع أنطمة فاسدة على حكمه، شعبنا ما زال يبحث عن هويته بين صناديق الانتخاب وصناديق الموت.

أكاديمي مصري
[email protected]