الجزء الثاني من كتاب quot;بغداد حبيبتي، ذكريات وشجونquot;: -1- ذكريات منسية

رسالة شفوية، لرئيس سابق للدولة السورية،من بطل القادسية،
الذي نسي مواعظ الآيات القرآنية

طاردني العراق مرة أخري في عام 1986، وهو الذي يطاردني حيثما أذهب في هذا العالم الذي أصبح بفضل مخترعات الكفار الشيطانية، بابتكار وسائل نقل جوية وبرية، وآلات اتصال ألكترونية، لم يحلم بها لا الأنس ولا الجنس، إلا رواة قصص الف ليلة وليلة الذين تحدثوا عن بساط الريح (الطيارة)، والحصان المجنح (الطائرة المروحية)، والمنظار السحري (التلفزيون) والتفاحة الشافية (البنسلين)، واصبح العالم بواسطة تحقيق الأفرنج لهذه الأحلام بمخترعاتهم الحديثة قرية صغيرة لا يخفى فيها على الشعوب لا شاردة ولا واردة. وكدأب قدري هذا مع العراق دائما، ودون إذن مني، امسك بتلابيبي في مدينة هامبرغ الألمانية ووضعني وجها الى وجه مع واسطة خير سوري، حمله صدام العراقي إقتراحا سريّا. كان ذلك عندما شاركت في مؤتمر المستشرقين العالمي الذي عقد في جامعة هامبرغ: International Congress of Asian and North-African Studies (ICANAS), Hamburg (1986).
نزلنا زوجتي وأنا مع أولادنا مايا وابراهيم (آڤي) في فندق quot;البلاط الاوربيquot; (إيروپیشر هوف Europauml;ischer Hof, Hamburg) مع الصديقين اللذين شاركا فيه ايضا، وهما الاستاذان ميريام روزن-أيالون، المحاضرة في تاريخ الفن المعماري الاسلامي ودافيد ايالون المتخصص في تاريخ المماليك في العالم الإسلامي في الجامعة العبرية. والاخير هو عّّرّاب ولدي ابراهيم ولذلك نزلنا معهما في نفس الفندق اكراما لهما، وقد حظي الطفلان بالرعاية والحب منهما وبدعوة معنا الى وليمة خاصة تمتع فيها الطفلان بأنواع الطعام والحلوى واللعب التي تقدم للأطفال في مثل هذه الفنادق الفاخرة. وكان برنامجنا في هذه السنة حافلا بالمؤتمرات والرحلات، فبعد انتهاء المؤتمر كان علينا السفر إلى لوس أنجلس لقضاء سنة تفرغ في جامعتها العامرة لإنجاز الأبحاث العديدة وتسجيل اولادنا في مدرسة امريكية قرب جامعة كليفورنيا لمواصلة دراستهم الابتدائية.
وفي نطاق هذا المؤتمر ألقيت محاضرة عن quot;المسرح البشري عند العرب في القرون الوسطىquot;، أثارت اهتمام الحاضرين. وهناك تعرفت لأول مرة على الاستاذ د. ستيفان ويلد الذي ربطتني معه منذ ذلك الحين صداقة حميمة، فقد كان كما يقول الجبرتي quot;سيد كريم في نفسهquot; بمعنى انه جبل على هذه الصفات بالفطرة وليس عن تصنع. وبعد إلقاء المحاضرة، جلست في الكرسي الوحيد الذي بقي شاغرا، الى جانب رجل حسن الهندام تبدو على وجهه مخايل الذكاء والوجاهة، وكان بصحبته مساعد له بملامح سعودية طويل القامة، يلخص له المحاضرات باللغة العربية التي كانت تلقى باللغة الانكليزية، فقلت في نفسي، لعله من مثقفي الانتداب الفرنسي .
هنأني السيد الكريم على المحاضرة، وتحدث معي بالأفرنسية، إذ ظنني فرنسيا بسبب اسمي الفرنسي الرنين، وقدم نفسه باسم quot;الدكتور معروف الدواليبيquot;، رئيس وزراء سوريا الأسبق (1961-1962) ورئيس مؤتمر العالم الإسلامي منذ عام 1974. ولما علم بأني عراقي الاصل ومن مواليد بغداد وأعمل أستاذا للأدب العربي الحديث في الجامعة العبرية في اورشليم- القدس، بش في وجهي على عكس الاستاذ الفيلسوف المصري الكبير د. عبد الرحمن بدوي في لقائنا في مؤتمر المستشرقين في باريس عام 1973، ولعله كان يعلم ما تخبؤه الاشهر القادمة في أكتوبر من مفاجآت ومآسي، فأبدى تحفظه من ترحيبي به واعجابي بفضله العظيم على تعريف العرب بالفلسفات اليونانية والأوربية. قال لي د. الدواليبي إنه مسرور لهذه الصدفة، لأنه يودّ أن يحملني رسالة شفوية سرية الى الحكومة الاسرائيلية بأسم القائد الضرورة المحنك، الرئيس العراقي صدام حسين، جذيل البعث المحكك وعذيقها المرجب. وهمس في أذني بأن الرئيس العراقي يعرض توقيع معاهدة سلام سرية بين العراق وإسرائيل، وسيكون من الشاكرين إذا استطعت إبلاغ ديوان رئيس الوزراء في إسرائيل بالأمر. كان ذلك اللقاء في احرج أيام الحرب الايرانية العراقية، وفهمت أنه يطلب مساعدة إسرائيل في حرب صدام ضد إيران ( 1980- 1988م). قلت له بانني أستاذ جامعي وليس لي صلات مع الحكومة الإسرائيلة لا من قريب ولا من بعيد، ولكني أعلم أن إسرائيل ترحب بكل معاهدة سلام مع الدول العربية قدوة بالرئيس أنور السادات الذي عقد مع إسرائيل معاهدة سلام علنية، ولا أظن ان إسرائيل ترغب في عقد معاهدة سرية مع اية دولة اجنبية. أجابني الدكتور الدواليبي بان الرئيس صدام يخشى غضب العرب إذا قام بمثل هذه الخطوة علنا، ولا يخفى على احد موقف الدول العربية من مصر ومقاطعتها بسبب مبادرة السلام التي قام بها الرئيس أنور السادات. قلت له، من الأولى، على ما أعتقد، عقد معاهدة علنية، فعند ذلك من الممكن أن تقوم إسرائيل بدعم العراق في حربها مع ايران، وفي مثل هذه الحالة فإن المستشارين العسكريين الاسرائيليين قد يمكنون الجيش العراقي من احتلال طهران خلال بضعة ايام! أجابني الدكتور الدواليبي بثقة وتفاؤل، بأنه متأكد من ذلك ولهذا السبب يعرض على إسرائيل مثل هذه المعاهدة السرية. وانتهى اللقاء بوعدي له بتبليغ المسؤولين عن الرسالة الشفوية التي حملني اياها.
رفضت الصحف الإسرائيلية الكبرى نشر المقال الذي كتبته لأسباب لم تفصح بها، فكتبت مقالا عن هذا اللقاء في مجلة quot;أپريونquot; (الهودج) العبریة، لمحررها الاديب المغربي الاصل ايريز بيطون الذي لم يخش من عاقبة نشره لمثل هذا المقال السياسي المريب. ثم أكدت بعض الصحف الاسرائيلية فيما بعد، هذا الطلب ومنها جريدة quot;هآرتسquot; وهي من الصحف المهمة والموثوق بها، ورفض اسرائيل ان تكون معاهدة السلام مع العراق معاهدة سرية، وذكرت بأن احد كبار الساسة العرب طلب من كاتب هذه السطور عرض هذا الامر على المسؤولين في اسرائيل وأن بعض المسؤولين الإسرائيليين وصلهم مثل هذا الاقتراح من صدام القادسية، ثم اهمل الأمر وبردت المبادرة.
استفسرت من بعض اصدقائي الذين اتراسل معهم منذ ان نشرت مجلة quot;إيلافquot; الغراء ذكرياتي عن العراق (2006). ولحسن حظي تسلمت رسالة توضيحية من أستاذ عراقي كبير من إحدى الجامعات العراقية الحديثة ومن المتخصصين في الفكر السياسي، مجيبا على رسالتي الألكترونية إليه، قال فيها موضحا ملابسات هذا العرض الصدامي السري: quot;في اثناء الحرب الايرانية العراقية أوفد صدام وزير خارجيته طارق عزيز الى لندن واجتمع سرا مع عدد من التجار ورجال الاعمال من يهود العراق عارضا عليهم التوسط لدى اسرائيل من اجل الاعتراف بها مقابل دعمها له في حربه، وقد سربت الخبر في حينها عدد من وسائل الاعلام من صحافة وراديو وتلفزيون.quot; إلى هنا ما ورد في رسالة الاستاذ العراقي الفاضل. سألت بعض اصدقائي من التجار ورجال الأعمال من يهود العراق في لندن من امثال عائلة دنكور وعائلة خلاصجي وعائلة شكر وغيرهم من الذين لهم مكانة ممتازة في الأوساط المالية في لندن الى اليوم، فأنكروا لقاءهم بالوزير المحنك طارق عزيز، ولم استطع حتى اليوم الوقوف على اسماء مثل هذه العوائل التي توجّه اليها الوزير العراقي لنشرها للحقيقة والتاريخ.
هل أراد صدام حسين ان يتقمص شخصية خالد بن الوليد، سيف الله المسلول، الذي كان ضمآن للدماء وللفاتنات من النساء ، فاشتهر اكثر من سعد بن أبي وقاص بطل القادسية، ليدحر الفرس مرة اخرى، وتصرف مثل خالد بن الوليد الذي أثار غضب العرب لقسوته في حروب الردة؟ وهل حاول صدام أن يثأر للعرب على تمادي الفرس الروافض بالتحرش بالدول العربية واغتصاب جزر الخليج العربي العامرة بآبار النفط، واقستامهم لشط العرب مع العراق بالرغم من نسبة الشط للعرب منذ فجر الإسلام، وما زال الفرس حاقدين على العرب، ولا يزالون الى اليوم يعيّرون يهود العراق بأنهم ساندوا العرب في إسقاط الامبراطورية الساسانية، فقد أطاح العرب الغزاة بعروش كسرى وسبوا أميراتهم اللواتي كن، حسب ما ترويه إحدى المصادر العربية، يقدمن الى الخليفة العباسي قبل زفافهن الى عريسهن، فيقول المتوكل لرجال حاشيته بفخر، على ما أتذكر، بعد ان سألوه عن النخير والشهيق الذي سمعوه من مخدعه: أترون كيف أعزّ الله العرب بالإسلام، وهل هناك عزّ بعد هذا العِزّ؟؟؟.
لم تستطع كبرياء صدام المصدومة برفض اسرائيل إقتراحه الحاتمي النزيه مواصلة غزله معها، وقرر أن يواصل صدامه وحده مع حكومة الخميني الصفوية وجمهوريته الأسلامية بعد أن اطاحت عام 1979 بنظام الشاه محمد رضا بهلوي، حليف الولايات المتحدة التي خذلته، ولم يستطع الصبر على تحرشاتها ومطالبها الإغتصابية المتحججة.
تخلى صدام عن رغبته في الاتعانة بإسرائيل، وواصل وحده حربه الدونكيشوتية العشوائية مع ايران، الى أن اضطر الى إنهاء هذه الحرب الطاحنة مع جارته عام 1988 عائدا فيها بخفي حنين. وكانت حصيلتها وبالا على الطرفين، مليون قتيل وأكثر من مليون نسمة من الجرحى والمعوقين والمصابين بالعاهات الجسدية والنفسية، والأرامل والأيتام المشردين، وشرد الآلاف من زهرة الشباب العراقي المثقف، وهدرت دماء خيرة الشباب الوطني عبثا، إذ لم يحصل على اي إنجاز ملموس من ورائها سوى الدمار والثكل واليتم والترمّـل من الجانبين وتبذير ملياردات الدولارات فيها اقتطعت من فم الشعبين المسكينين. ولله درّ امرؤ القيس حين يقول:
الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ولت عجوزا غير ذات حليل
شـمطاء ينكر لونها وتغيرت مكروهة للشم والتقبيل