ذكريات عراقية في وثائق منسيةndash; يقدمها أ.د. شموئيل (سامي) موريه (الحلقة 3)

(ب)

ويواصل الاستاذ منشي زعرور حديثه عن بغداد بقوله: quot;وبغداد هذه التي نتكلم عليها، هي بغداد قبل الاحتلال البريطاني وبعده بقليل، يوم كانت مدينة صغيرة تمتد على حافتي دجلة من جانبيها الشرقي والغربي- الرصافة والكرخ- ولم يكن عرض كل جانب أكثر من أربعة كيلو مترات، أما في الطول فهي ممتدة من باب المعظم إلى باب الشرقي لا أكثر

الحلقة الأولى

من بضعة كيلو مترات ... وصفوها هذا هو الذي كان يساعد ساكنيها على سماع أي مغن في الليل في أي مكان منها، خاص وأنها كانت خالية من وسائل النقل لهذا العصر من محركاته الميكانيكية ومن مصانعه الآلية... فليلها ساكن هادئ ولا يعكر صفو هذا السكون إلا دوي اطلاقات نارية بعض الأحيان ينبعث من بساتين ضواحيها ومن بعض طرقاتها حين يطارد العسس اللصوص فيتبادل الطرفان إطلاق العيارات النارية ... كان أهل بغداد يومذاك شغوفين كثيرا بالمقام العراقي، وكانت مدينتهم لا تخلو في لياليها من أفراح كثيرة، وقد اعتاد الموسرون منهم أن يحيوا حفلات ساهرة في بيوتهم تمتد كل ساعات الليل حتى الصباح يعزف فيها جوق الجالغي ويغني مغنون كثيرون هم على أصناف من حيث مرتبة فن المقام. وكان هؤلاء المغنون يكادون يشنفون أسماع أكثر سكان المدينة لصفوها وهدوئها، ومن هنا يقول الشيوخ، إن احمد زيدان مثلا كان يغني في جانب الرصافة فيسمعه أهل الكرخ، وكانوا يحسبون خطأ أن ذلك يعود إلى قوة صوته! ... وأعود إلى ليالي بغداد يومذاك فأكثر مسلميها كانوا يفضلون في أفراحهم وأعراسهم إقامة المواليد النبوية وهذه المواليد تحييها أجواق عديدة من منشدي التسابيح والحمد للخالق العظيم ونبيه الكريم، وكان يغشى هذه المواليد أناس كثيرون من غير دعوة فيعمرون صدورهم من الروحانيات فتزداد مروءاتهم وتخفق قلوبهم بحب الخالق وبمصافاة خلقه طرا، ويتناولون كل ما لذ طعمه وطاب شربه فيحمدون ويشكرون وأكثرهم يرددون في دخائل نفوسهم: quot;إن شكرتم لازيدنكمquot;، وتمتد السهرة حتى الفجر غير أن أناسها يمضون ساعات بعد منتصف الليل بعد اختتام قراءة قصة المولد الكريم بإقامة الذكر، والذكر أيضا فيه امتداح للخالق ولأنبيائه ورسله جميعا، ففيه يؤلف نفر من الحاضرين دائرة وهم وقوف ماسك احدهم بيد الأخر فيتحركون حركات منظمة رتيبة وكلهم بأصوات منسجمة منغمة يرددون: quot;لا أله إلا هوquot;، بينما يواصل ضاربو الدفوف نقر دفوفهم وفق تنغيم أهل الدائرة، وبين حين وأخر يغني احدهم مقاما بالاماديح النبوية فيتساوق تماما مع النقر والتنغيم ويكون في وسط الدائرة شاب وسيم الطلعة يغطي رأسه quot;بقاووغquot; طويل منقوش بألوان زاهية ويرتدي quot;تنورةquot; فضفاضة من النسيج الحريري ويسمون هذا الغلام quot;ملويquot;، يظل يدور بخفة كاللولب وسط الدائرة طيلة مدة الذكر فلا يتعب ولا يكل خلال ساعة أو أكثر وترى الناس من حول الدائرة سكارى وما هم بسكارى ولكن الخشوع الروحاني قد أغرقهم بفيضه المقدس فراح كل منهم يمدح ويسبح ويستغفر ويتضرع إليه تعالى أن يمد خلائقه بالخير والبركات والإيمان.
وفي وسط وهج هذا الجو الروحاني يرتفع صوت احد ضاربي الدفوف وكان صاحبه كالقمر وسط هالة من زملائه يغني مقاما بصوت عريض رخيم فيه بحة محببة، وكان أهل بغداد عامة يعرفون هذا الصوت وصاحبه فيطربون له أكثر مما يطربون لغيره وكل منهم يقول quot;الله يطول عمرك يا احمد شعبانquot;. وكان هذا أكثر ما يغني من شعر التزهد لأبي العتاهية إسماعيل بن القاسم العباسي من ذلك مثلا في الذكرى الحسنة بعد الموت:
كـل حـي عند ميتتهحظه من ماله الكفن
إن مال المرء ليس لهمنه إلا ذكره الحسن
في سـبيل الله أنفسناكلـنا بالموت مرتهن
وكان أهل بغداد يحبون مغنيا أخر يهوديا هو واحمد شعبان في مستوى رفيع واحد عندهم من حيث أغانيهما الدينية والروحانية وهذا المغنى اليهودي هو quot;إفرايم باباييquot;، بلغ الان من الكبر عتبا ويعيش في إسرائيل بعافية وصحة، أتمنى على الله أن يكون زميله احمد شعبان لا يزال حتى الان حيا معافى يرزق في بغداد.
وإفرايم هذا كان يرأس جوقا يغني أفراده تسابيح واماديح لله بكلمات عبرية شعرية من نظم الحاخامين البغداديين، وهذا الجوق يكاد يشبه احد أجواق قراء المولد النبوي عند المسلمين. ولا تدهش يا أخي القارئ حين أقول ذلك، أن تسابيح واماديح أغنيات بابايي وجوقه تكاد لا تخرج عن نطاق مثيلاتها الروحانية عند أجواق المواليد النبوية، وأكثر من ذلك أن سكان أي حي من إحياء بغداد المختلطة بسكانها تجد مسلميها فرحين مسرورين بليلة يحيى فيها جوق بابايي حفلة في احد بيوت يهودها وكان أكثر اليهود يفضلون - كالمسلمين- إقامة مثل هذه السهرات التسبيحية الروحانية على الجالغي. وكثيرا ما كان يدعى مسلمون ومسلمات من الجوار إلى حضور هذه السهرات فيحضرونها بشوق وفرح، ويقاسمون أهلها اليهود أطايب أطعمتهم على أساس quot;طعامهم حل لكم وطعامكم حل لهمquot; .
أما تلاحين أغنيات التسابيح والاماديح الروحانية فهي واحدة في النغم والأداء والمقاطع والقفلات عند المسلمين واليهود.
وجوق افرايم بابايي هذا كان مؤلفا برئاسته من طلاب ثانويات يهود من أصحاب الأصوات الرخيمة والحناجر القوية المرنة، أما صوته هو فكان quot;داوودياquot; كما يصفه أهل فن الغناء البغداديون، أي انه صوت فيه رخامة وفيه نبرة حلوة وقوية، وكان صاحبه يدرب أفراد جوقته على الغناء والأداء ويترجم لهم كل عبارة وعبارة من المنظومات الشعرية العبرية ومعانيها وما تتطلبه هذه المعاني من الأداء ليستقيم المعنى والنغمة، وكان أفراد أجواق قراء المواليد المسلمون يعجبون بوحدة أصوات افراد جوق بابايي، وأهل بغداد كما أسلفت، على اختلاف منازعهم ومذاهبهم، وكانوا يقدرون جوق بابايي فينصتون لتراتيله وتنغيماته كإنصاتهم لتراتيل وتنغيمات اجواق المواليد، وكانوا حين يذكرون احمد شعبان يقرنونه بافرايم بابايي فيطرون الاثنين معا، لان صوتهما كانا يجلجلان في أجواء بغداد أكثر لياليها والدعوات المتبادلة بين المسلمين واليهود إلى حضور الأفراح والأعراس عند الفريقين كانت تقليدا اجتماعيا يحرص عليه الكل، فعندما كان روبين رجوان احد مغنى المقام العراقي البارزين يشترك مع جوق الجالغي في سهرة ببيت احد المسلمين كان يحلو لهم الرجاء إليه أن يغني عند الفجر المقام الخَلـْوَتي بكلمات اعتاد مؤذنو جوامع بغداد في تمجيدهم بصحن المئذنة قبل صلاة الجمعة أن يقولها بنغم هذا المقام ومطلعها:
quot;سبحانك ما حمدناك حق حمدك، يا موجودquot;،
وكان الحاضرون يهللون للمغني رجوان ويشكرون على أدائه هذه الكلمات الروحانية كما يؤديها أي مؤذن، ولكن صوت رجوان كان أرخم وتمكنه من المقام كان يجلو هذا التمجيد للخالق جلاء نورانيا مقدسا.quot;
إلى هنا ما رواه الاستاذ زعرور، وما زال يهود العراق الى اليوم ينشدون باللغة العربية في صلواتهم الصباحية بصوت رخيم الرباعيات التي مطلعها:
قوموا صلّوا الفجر بيّن أدي فرضك لا تـديّن
واليـقول القـبر هـيّن فـيه عقرب ثم حية
تُرَى هل تسري مثل هذه الذكريات الصافية في لا وعي اليهود العراقيين الى اليوم أبا عن جد، ويبقى الحنين؟ كنا في اجتماع تكريمي في يوم 30 آب من هذا العام، للأديب والصحفي باروخ مئيري لمناسبة صدور مجموعته القصصية quot;حب الرقيquot; (رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق، 2011) يروي فيها باللغة العبرية حكايات طفولته وهجرته وعمله مراسلا ومديرا لمكتب جريدة quot;معاريبquot; في اورشليم-القدس, فإذا باحد الحاضرين البصراويين يقدم نفسه باسم فريد، يطلب إلقاء قصائد حنين الى مسقط رأسه. ومن يستطيع في مثل هذه الاجتماعات رد مثل هذا الطلب، وقف على المنصة وأنشد:
أيا دجلة والفرات ما للشوق يدفعني؟
ليته لربى بغداد والبصرة يرجعني
أذوب حنينا إليكم فهل الصبر يرحمني
أمْ ترى لا رجع للصدى، فليس من يسمعني
صفق له الحاضرون، سألت السيد موشيه هنجبي، المعلق للشؤون القانونية في صوت اسرائيل باللغة العبرية الذي شارك في الأمسية، كيف يفسر حنين اليهود الى العراق؟ وهل سمع بشأعر من يهود أوروبا ينشد شعر حنين الى اية دولة من دولها؟ فقال في حيرة مما سمع، بانه لايدري كيف يفسر هذا الحنين، ولم يسمع عن من كتب قصائد حنين الى دول أوروبية.
ولكن هذا الحنين يشوبه ألم لما يحدث في العراق اليوم وما جنته دول الجوار من شيعة وسنة على الفراتين الخالدين. واليوم لم تُجدِ دموع أمير الشعراء ولا دعاء الشاعر ابراهيم عوبديا قبل وفاته بأيام: quot;يا ربّ نجِ العراقَ من محنِهquot;، من تجنيب دجلة والفرات من العوادي، ولم تجد دموع الايتام والأرامل ومحبي العراق ومغتربيه في تجنيبه المصائبه، وتذكي نيران اللوعة في جوانحنا مآسي العراق المتتالية، منذ ان دخلت النظريات الغريبة وفلسفاتها فشوهت اخلاق الشرقيين بإثارة الاحقاد والكراهية والاطماع وانكار الآخر وتجريده من حقوقه الوطنية من مساواة وحرية وتسامح وديموقراطية، هذه النظريات القومية الشوفينية المتغطرسة كانت السبب في تشريد واعتقال وشنق خيرة الشباب العراقي.
واليوم أرهف السمع لعلي أسمع اصداء أغاني العراق في مقاهي شارع أبي نواس والرشيد وعلى مياه دجلة والفرات حين كانت الزوارق تتهادى بعشاقها وبالاصدقاء والعائلات السعيدة من سمار الليالي المقمرة والاسماك تمرح حولها في قفزات سرور ومرح وقوانيس الزوارق تعكس اشعتها المزغردة المهللة لأفارحهم على صفحات النهر الخالد، والندامى في سمرهم تحت قمر العراق الضاحك، ينطلقون بالأغاني عن ظلم الحبيب وجراحاته وآهات الغرام؟ فلا اسمع اليوم سوى دوي المفخخات وأنين الجرحى وبكاء الأرامل والأيتام، وقد صمت ايقاع نقر الدرابك في ليالي العراق المقمرة ايام طفولة السياب. كان ذلك في ايام عزّ العراق، واليوم يا عراق، حنيني إليك يكوي اضلعي ومصائبه حرائق في دمي، فقد أصبح العراق اليوم شماتة للاعادي، فتقطع عن دجلة والفرات المياه من الشرق فتاوى العمائم واللحى، ومن الشمال يقطعها وريث السلطان الأحمر الغاشم، الذي ما زالت البلاد العربية تعاني من آثاره، وما زالت ساحات دمشق تحمل اسماء الثوار العرب الذين شنقهم جمال باشا السفاح، وسفاح دمشق الجديد يقتل خيرة شبابها في شوارع سوريا التي تحمل اسماء شهداء العرب ضد العثمانيين، ونرى هذا الوريث يصبح أسدًا على شعبه وهو في الحروب نعامة. ولسان الحال يقول:
يا جراحاً وراء دجلة تدمى في دموعـي تجنبتـكِِ العوادي
تأتي قاعا قد كان بالامس روضا صار قـفـرا شماتةً للأعادي
قف، تمهل، وخد أماناً لقلبي من دموع الأيتام تحت السواد