ذكريات عراقية في وثائق منسيةndash; يقدمها أ.د. شموئيل (سامي) موريه: (3)
مهداة الى اصدقائي العرب الذين ارسلوا اليّ تهانيهم بمناسبة عيد رأس السنة العبرية الجديدة
ما زلت الى اليوم كلما استمعت الى قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي غناها مطرب الاجيال محمد عبد الوهاب في حضرة الملك الهاشمي فيصل الأول في بغداد، أشعر بقشعريرة عميقة من الحنين تسري في كياني، مستشعرا حريقا في شغاف القلب، ونياطه تتقطع حنينا الى ربوع الطفولة والشباب وانا استمع الى الصوت المخملي الحنون يفتت الصخر الجلمود حنينا وأسى:
يا شراعاً وراء دجلة يجري في دموعي تجـنبتك العوادي
سِـرْ على الماء كالمسيح رويداً واجرِ في اليمّ كالشعاع الهادي
وَأتِ قاعاً كرفرفِ الخلدِ طيـباً أو كفردوسـه بشاشـة وادي
قف، تمهل، وخذْ أماناً لـقـلبي من عيون المها وراء السواد
وأسلوب شوقي في اسلامياته وغزله هو إلهام لدني وسحر حلال. وأعود الى سنوات الصفاء قبل هجرتنا حين كنا نشعر بنفحات الخلد طيبا، تهب من دجلة والفرات رافدي الخير والبركة، نسيما عليلا، يوم كان اهله في بشاشة الفردوس ونعيمه، في ايام عز العراق تحت رعاية الملك فيصل الأول، يأتمرون بوصيته الوطنية: quot;الدين لله والوطن للجميعquot;.
وما زلت أتذكر بساتين العراق وقد كستها الأعشاب الى خاصرتي، تبدو برقة الديباج، quot;كرفرف الخلد طيباquot;. وأسائل النفس، ترى لماذا هذا الحنين الطاغي بعد أكثر من ستين عاما على الرحيل؟ واي شيء يشد يهود العراق إليه إلى يومنا هذا؟، فتراهم محافظين على لهجتهم وأغانيهم وعاداتهم وتقاليدهم وذكرياتهم في العراق وذكرى الاصدقاء والجيران الذين عاشوا معهم اياما خصيبة وعصيبة، وهم يتسقطون أخباره ويحزنون لمآسيه؟ ورحت اقلب صفحات التاريخ لعلي اعثر على الجواب الشافي. فأفتح كتاب quot;رحلة بنيامين التطيلي النباري الاندلسيquot; (من 1165م-1173م) التي ترجمها عن الاصل العبري وعلق حواشيها وكتب ملحقاتها الاستاذ عزرا حداد، (بغداد، 1945)، لاقف على شهادة شاهد من أهلها. ويسعفني الحظ، فأعثر على حديث هذا الرحالة اليهودي الأندلسي عن بغداد (ص 131-139)، في أواخر خلافة المستنجد بالله العباسي (1160-1170م). فإذا به يتحدث عن عز الخلافة العباسية وعن اليهود وثروتهم واملاكهم والاحترام الذي كانوا يتمتعون به لدى الخلفاء العباسيين الذين كانوا متمسكين بالآية الكريمة: quot;ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوءةquot; (الآية 16 ك سورة الجاثية 45). فيحترمون أنبياءَهم واحفاد ملوكهم وأنييائهم ويبجلونهم.
يقول بنيامين التطيلي عن يهود بغداد التي زارها: quot;يقيم في بغداد نحو 40 ألف بهودي وهم يعيشون بأمان وعز ورفاهية في ظل أمير المؤمنين الخليفة ... اما رئيس هؤلا العلماء جميعهم فهو الربي دانيال بن حسداي الملقب quot;سيدنا رأس الجالوتquot; ويسميه المسلمون quot;سيدنا ابن داودquot;، لأن بيده وثيقة تثبت انتهاء نسبه الى الملك داود ... وتقضي التقاليد المرعية بين اليهود والمسلمين وسائر ابناء الرعية بالنهوض أمام رأس الجالوت وتحيته عند مروره بهم. ومن خالف ذلك عوقب بضربه مائة جلدة. وعندما يخرج رأس الجالوت لمقابلة الخليفة يسير معه الفرسان من اليهود والمسلمين. ويتقدم الموكب مناد ينادي بالناس: quot;اعملوا الطريق لسيدنا ابن داودquot;. ويكون الرئيس ممتطيا صهوة جواد وعليه حلة من حرير مقصب وعلى رأسه عمامة كبيرة تتدلى منها قطعة قماش مربوطة بسلسلة منقوش عليها شعار الخليفة. وعندما يمثل في حضرة الخليفة يبادر الى لثم يده. وعندئذ ينهض الخليفة وينهض معه الحجاب ورجال الحاشية، فيجلس الرئيس فوق كرسي مخصص لجلوسه قبالة الخليفة ... وجري الاحتفال بنصب رأس الجالوت الجديد بمهرجان مشهور، إذ يبعث اليه الخليفة بأحدى ركائبه الملوكية فيتوجه الى قصر الخلافة، وفي ركابه الأمراء والنبلاء ومعه الهدايا والتحف النفيسة للخليفة ورجال قصره. وعندما يمثل بين يدي الخليفة يتسلم منه كتاب العهد...quot;
ويبدو أن مثل هذا النظام بقي جاريا مع كبار العلماء اليهود والأطباء منهم خاصة، الذين كانوا يتعممون بعمامة لها ذؤابة لعلها شبيهة بعمامة رأس الجالوت في بغداد أيام عزها، بل كان جلوسهم قبالة السلطان أيضا، وعند دخولهم كان المسلمون يقفون لهم احتراما. ويروي ابن بطوطة (1304-1378) الغرناطي والطنجي مولدا والمتعصب في تطبيق أحكام الذمة، في رحلته (بيروت 1964، ص 302)، إنه عند زيارته للسلطان التركي محمد بن آيدين: quot;أتى شيخ على رأسه عمامة لها ذؤابة، فسلم عليه وقام له القاضي والفقيه، وقعد أمام السلطان فوق المصطبة والقراء اسفل منه، فقلت للفقيه: من هذا الشيخ؟ فضحك وسكت، ثم اعدث السؤال، فقال لي: هذا يهودي طبيب، وكلنا محتاج اليه، فلأجل هذا فعلنا ما رأيت من القيام لهquot;. فأخذ ابن بطوطة الامتعاض، وجعل يهين الطبيب على جلوسه فوق قراء القرآن، وشتمه، ورفع صوته، فأنكر السلطان فعلته، وغضب اليهودي وخرج من المجلس. ألا يذكرنا موقف ابن بطوطة المتعصب من موقف المتعصبين اليوم من الأقليات الدينية في البلاد الإسلامية، فزرعوا الكراهية وقاموا باضطهادها وبتهجيرها وتدمير الكنس والكنائس. ويبدو ان الرحالة المغربي في زمن الموحدين المتعصبين قدم الى العراق في أواخر العصر العباسي الذهبي، وقد صوح غصن الاندلس الرطيب بالحروب الداخلية والأحقاد والتعصب الديني، ولم يكن هذا السائح يعلم بالاحترام الذي كان يكنه المشرق الإسلامي لليهود، فلم يستطع عقله استيعاب ما يراه من عجائب المجتمع العراقي من سماحة الاسلام في العصر العباسي الذي ازدهرت فيه الفلسفات اليونانية وتياراتها الاسلامية من معتزلة ومتكلمين وملامتية ودهريين, ذكرتني هذه الحادثة التاريخية بموقف المتزمتين من كارهي الأقليات والحاقدين الذين يرون ان الديموقراطية والمساواة هي من عمل الشيطان، فيهاجمون كل من ينصف يهود العراق ويحاول رد الاعتبار إليهم من احرار الكتاب اليوم، ويهاجمون في تعليقاتهم على مقالات الكتاب الديموقراطيين، لان ميولهم السياسية لا تروقهم مستخدمين كلمات واسلوب ذكرني باسلوب الموحدي المغربي، فأسلوب الحقد والكراهية يسود ايام غروب مجد الأمم، وفي عز إشراقها يسود فيها التسامح والاخاء والتعاون واكتساب العلوم ونشرها وانفتاح العلماء على علوم الشعوب الأخرى ودراستها والاستفادة منها.
وهذا ما جرى في الأمبراطورية العثمانية التي فتح السلطان العثماني بايزيد الثاني ثغورها أمام يهود الاندلس الذين طردهم التعصب المسيحي مع المسلمين من الأندلس عام 1492، فقد فتح هذا السلطان بلاطه أمام الاطباء والعلماء اليهود ومنهم من كان خبيرا في صنع المدافع الثقيلة وصب ماسوراتها، وهو فن برع فيه يهود الاندلس ويتطلب خبرة خاصة. ويقال ان الامبراطورية العثمانية صمدت أمام الصراع مع أوروبا خمسة قرون إضافية بفضل الصناع اليهود وحكمائهم الذين خدموا العثمانيين باخلاص وصدق وكان منهم المستشار والطبيب والمنجم والصراف باشي وهو بمثابة وزير المالية آنذاك.
ويبدو ان هذا الصفاء والوفاء بين المسلمين واليهود في العصر العثماني بقي الى بعد سقوط الامبراطورية العثمانية ودخول البريطانيين الى بغداد يوم 11 آذار/ مارس، 1917. وعن الحياة الرغيدة التي سادت بين المسلمين والاقليات الدينية في العراق. حيرني تفسير هذه الظاهرة في حب يهود العراق لأرض السبي حيث علقنا اعوادنا على صفصافها الغض تتدلى اغصانها كسواد فروع النائحات على ضياع الملك، واليوم ينوح العراق على ماض مجيد انتهى بمصرع العائلة المالكة الهاشمية بكل وحشية حاقدة تكتسح أمامها كل من اراد خير العراق، حتى الزعيم الخيّر عبد الكريم قاسم الذي اراد خير الشعب العراقي بقلبه طاهر، أعدموه بغدر تعف عنه الوحوش الكاسرة. ثم عثرت بين اوراقي المبعثرة على مقال لاحد محبي العراق كتبه الصحفي الكبير الأستاذ منشي زعرور، الصحفي العراقي الذي خدم الصحافة اليسارية في العراق والذي غمط حقه حتى زعيم الحزب الذي خدمه بكل اخلاص، الى ان اضطر الى مغادرة مسقط رأسه مع الهجرة الجماهيرية لليهود عام 1950-1951. يروي لنا الأستاذ منشي زعرور، الصحفي العراقي الذي خدم الصحافة اليسارية في العراق وحوزي جزاء سنمار، الى ان اضطر الى مغادرة مسقط رأسه مع الهجرة الجماهيرية لليهود عام 1950-1951. انار هذا المقال حلكة الحيرة واشار الى احد الاسباب الرئيسية لحلول الخير والبركة في وادي الرافدين في الماضي، ألا وهو التسامح الديني وحب ابناء العراق بعضهم لبعض دون حزازات طائفية أو دينية أو مذهبية، وعملهم الدؤوب لخير العراق واهله.
كتب الأستاذ الصحفي المرحوم منشي زعرور، أبو ابراهيم الذي كان يرتاد حلقات جامع الحيدرخانة ويوقع مقالاته باسم السَمَيْدع العربي، مقاله الذي يحن فيه الى ماضي العراق حين عاش المسلمون مع غيرهم من الملل بالتآخي والحب والصفاء، في مقال له بعنوان: quot;خواطر عن ليالي بغدادquot;، نشره في مجلة quot;المصورquot; [تل ابيب ndash; يافا، العدد 125، السنة 6، 25 مايو/أيار 1966، ص 26] فتحدث عن: quot;ذكريات جميلة عدت عليها السنون وكادت أن تطمس معالمها مع ما فيها من عبر وعظات وشواهد على أن القوم في العراق كانوا يعيشون متعاونين متحابين على اختلاف مللهم ونحلهم بما كانوا عليه من خصال حميدة وتقاليد موروثة هي من القيم الروحية في الصميم ومن الضوابط الخلقية في مدى بعيد...quot;
ويواصل الاستاذ منشي زعرور قوله: quot;ذكرتنا quot;المصورquot; بما نشرته في عدديها الأخيرين من عرض لكتاب quot;المقام العراقيquot; [للشاعر ابراهيم عوبديا، رابطة الجامعيين النازحين من العراق، 1999] والتعقيب عليه، ذكرتنا بأيام حلوة وليال أحلى ، ذكرتنا بعهد في بغداد كانت أغانيها ومقاماتها في لياليها البيض قاسما مشتركا بين مسلميها ويهودها. ذلك العهد الذي كانت السياسة فيه لم تخضع تلك الأغاني والمقامات لخدمة أبالستها وشياطينها، وكان أصحابها أرفع من أن يقبلوا على أنفسهم أن يكونوا آلات مسخرة لأي طاغية من الطغاة يسبحون بحمده ويحرقون له البخور...
يتبع
التعليقات