أطنب الشاعر السوري أدونيس في مدح الرئيس العراقي جلال طالباني وزوجته لكرمهما في إستضافته والسهر على خدمته وتوفير المأكل والمشرب له بأيديهما (الحياة، 19 إبريل، 20012). وحدث هذا في زيارته الأخيرة لكردستان، التي بات ضيفاً دائماً فيها، في أثر دعوة وجهت إليه لحضور نشاط ثقافي.

ومن حق أدونيس بالطبع، كما من حق أي شخص، أن يمدح من يشاء أنى شاء. فهذا أمر يخص المادح والممدوح لا شأن للآخرين به. غير أن الحال يختلف حين يريد أحدهما، أو كلاهما، أن يذيعه في الناس وينشره للملأ ويلفت إنتباه الناس إليه وإشغال الرأي العام به. في هذه البرهة يخرج الحدث من دائرة العلاقة الشخصية، الحميمة، ويكتسب بعداً عاماً يطال الآخرين. والآخرون هاهنا هم القراء الذين ينقل الشاعر مدحه للرئيس إليهم.

يتجاوز الموضوع تخوم الشكر ورد الجميل ليصل إلى ميدان الدعاوة والتهليل. نحن هنا أمام حركة مقصودة الغاية منها هي التأثير في الرأي العام والسعي في إعادة صوغه بإتجاه جديد. يستثمر الطرفان في الرأسمال الرمزي الكبير الذي هو الناس. يستغل الشاعر إسمه وشهرته للإعلاء من شأن الحاكم، مقابل الإحتفاء به وإستقباله بالحفاوة والترحيب. فيما الحاكم متلهف لإلتقاط اللحظة والقول للناس: أترون، هو ذا شاعر كبير يشيد بي ويمدحني أفلا يدل هذا على أنني، تماماً كما يؤكد أتباعي وأنصاري، أنني قائد ناجح وزعيم مقتدر وأب حنون للجميع؟

والعلاقة بين الشاعر والحاكم، منذ القديم، مابرحت مثيرة للريبة والظنون. وكان الرئيس الليبي السابق معمر القذافي أحدث جائزة بإسمه ليغدق بها على الشعراء. ورفض الكاتب الإسباني غويتسولو الجائزة كما هو معروف تنديداً بطغيانه ودكتاتوريته.( كان جلال الطالباني من المعجبين بالقذافي وقد ترجم كتابه الأخضر إلى الكردية ثم أطلق إسمه على شارع في السليمانية).

وكان أدونيس يعاتب الشعراء الذين كانوا يتوافدون إلى بغداد في زمن صدام حسين ويتبارون في مدحه والإشادة به. وفي إحدى المرات كتب بعض الشعراء العرب، من بينهم محمود درويش وسليم بركات وجابر عصفور وغالي شكري برقية شكر إلى صدام حسين على هذا النحو: laquo;لقد رأينا يا سيادة الرئيس كيف تقذفون بالحق على الباطل بكلمة laquo;لاraquo; فإذا هو زاهق. وكيف تُشمِّرون عن سواعدكم بكلمة laquo;نعمraquo; لإضاءة موطن المستقبل العربي. وليس لنا نحن الأدباء والشعراء العرب المشاركين في مهرجان المربد السادس إلا أن نتوضّأ بماء النصر الذي قدْتم العراق إليه، فحملتم به عبئاً عنا وقدَّمتموه لنا هدية، هي هدية التاريخ للأجيال القادمة ضوءاً وأمثولة وفداء...raquo;.

وكل هذا مجرد تملق رخيص وتذلل لايليق بأي كاتب أن يمارسه إزاء أي حاكم فكم بالأحرى إذا كان الحاكم مستبداً. وإن كان لابد من فعل شيء في هذا الباب فالأجدر أن يسعى الشاعر إلى الأستفادة من شهرته للتأثير في الحاكم لدفعه إلى عدم الإنجرار لشهوة الطغيان وعبادة الذات وإحتكار السلطة وتوريثها إلى أبناءه وأقاربه. والحكام الكرد، في هذا الميدان، ينافسون أقرانهم العرب إن لم يكن يسبقوهم بأشواط. وكان الطالباني قال، رداً على سؤال من أحد الصحافيين حول الإنتقادات التي توجه إلى سلوكه السياسي، أن حال المنتقدين هو حال الكلاب التي تنبح حين ترى القمر المنير.

ولكن ماذا فعل أدونيس في كردستان؟ هل ذهب يبحث عن الشعر والحداثة؟ ألم تكن هناك أماكن أكثر اكتراثاً بهذه الأشياء من الإقليم الذي لاوقت له للشعر والأدب هو الغارق في سجالات لاتنتهي مع الحكومة المركزية في بغداد؟ هل ذهب ليؤكد دعمه للأكراد بوصفهم ضحايا استبداد طويل من نظام فتك بهم باسم العروبة ؟ فلماذا توريط الشعر والأدب إذا؟ ثم أن الأكراد باتوا الآن أحراراً وكفوا عن كونهم ضحية مسلوبة الإرادة. هم كانوا كذلك لوقت طويل لزم خلاله أدونيس، أسوة بسواه من الكثيرين من الشعراء والكتاب العرب، الصمت. لم ينبس أدونيس ببنت شفة حين كان الأكراد بحاجة إلى جملة واحدة تفصح عن التضامن أو مجرد الشفقة. حين كان الأكراد يموتون خنقاً وشنقاً وأنفالاً أدار أدونيس ظهره. آنذاك لم يستطع أن يرى أو يسمع. آثر أن يرتكب quot;خيانةquot; الصمت. حين كان الأكراد بحاجة إليه حقاً لم يمنحهم دقيقة من وقته. الآن حين تحول الأكراد من quot;الثورةquot; إلى quot;الثروةquot; ونزلوا من الجبال إلى القصور أصبح التعاطف معهم أمراً مرغوباً وممكناً. لم يحتل الأكراد يومأً حيزاً ضئيلاً من دفاتر أدونيس. لم ينشغل بهم لحظة من اللحظات. لم يهتم بهم كبشر وتاريخ ووطن وثقافة وأدب وشعر. لم يكترث للمأسي التي حلت بهم. لقد كام مشغولا بالكتابة عن عن أنطون سعادة وآية الله الخميني والثورات العالمية ولم يكن لديه الوقت، أو المزاج، للكتابة عن الأكراد. آنذاك لم يكن في وسع الطالباني وزوجته إعداد الولائم على شرف الشعراء.

كان يهم المثقفين الأكراد الذين تحلقوا حول أدونيس أن يسمعوا ما يشبع رغبتهم في التخلص من عقدة النقص الكبيرة التي تستوطن دواخلهم. لقد أخذهم أدونيس quot;على قد حالهمquot; وأطرب سماعهم بكلمات تهدهدهم مثلما ما يهدهد المرء الأطفال بترنيمات ساحرة. فجأة أصبح المثقفون الكرد quot;أدونيسيينquot; وكاد واحدهم يهتف: بالروح بالدم نفديك يا أدونيس. انبروا يكتبون عن عظمة أدونيس وعن أرائه في الفكر والدين والثقافة هم الذين لم يقرأوا كتاباً أو ديوان شعر لأدونيس. نمت ذائقتهم الشعرية على حين غرة. بات أدونيس رمزاً لحوار الثقافات وأملاً للشعوب المقهورة كي تحظى بحقها في تقرير المصير.

ولكن هل يعرف أدونيس أن كردستان غارقة تحت ثقل هيمنة الذهنية العشائرية والسلوك الأبوي واحتقار المرأة وقتلها بداعي الشرف؟ . هل يعرف أن الأحوال في كردستان تبعث على الغثيان حيث يخضع الناس لسطوة العائلات التي تحكم باسم النضال القومي منذ عقود طويلة. هل يعرف أن هناك سيادة شبه مطلقة لسلطة الفساد والمحاباة والمافيات العائلية والحزبية؟ هل يعرف أن السلطة السياسية الكردية الحاكمة تحاول، مثل السلطات العربية بالضبط، أن تقوم باحتكار الفهم الجمعي وتنمط الذوق العام وترسخ طقوس عبادة الزعيم الأوحد الذي يعلو على كل نقد أو مساءلة؟ هل يعرف أن هذه السلطة، مثل السلطات العربية الحاكمة، تعمل من أجل تدجين المثقف وإخضاعه لشروطها بالإكراه أو الإغراء في عملية تحويل منظمة كي يكون هذا المثقف عبداً يرضى بالسائد ويصفق له؟

لم يسأل أدونيس نفسه عن السبب الذي جعل الزعيم الكردي يدعوه إلى كردستان. أحباُ بشعره وأفكاره عن الحداثة والتنوير والحرية أم لأشياء أخرى؟