تضارب الآراء حول ما حدث في قمة الرياض التشاورية كان أمراً طبيعياً!!..
ولستُ أناقش هنا مشروع اتحاد دول مجلس التعاون الخليجي.. ولكن الأمر ينطبق على الوطن العربي برمته!!..
ومن البديهي جداً أن تكون (القُطرية) هي الظاهرة التي عطّلت وتعطل مسارات الأمة العربية.. فهي أفسدت وتفسد أي تحرك اتحادي أو وحدوي، وتُوقف أي محاولة لعبور ما رُسم من حدود مصطنعة بين أجزاء الوطن العربي.. بل وتفرز المزيد من الرواسب، والمصالح، والتيارات الفكرية المعادية لتوجه الانسان العربي من المحيط الى الخليج!!..
غير أن نظرة على الواقع السياسي العربي والتيارات التي تتقاذفه، تُرينا أن الظاهرة الأبرز والأكثر تسلطاً على الحياة العربية، هي ليست صراع الاتحاد أو الوحدة مع القطريات، إنما صراع القطريات مع القطريات!!.. ndash; وهذا ما ستواجهه دول مجلس التعاون -.. فالقطرية بشكلها البسيط والأصلي لم تبرهن على قدرتها أن تتحول لحركة اتحادية، وبالتالي تتصرف على أنها شكل متكافئ في وجه حركة الاتحاد أو الوحدة، أو بعبارة أدق، حركة النزعة الاتحادية أو الوحدوية!!.. ndash; تُستثنى تجربة الامارات نظراً لخصوصيتها الاقتصادية التي تتولى كافة تبعاتها إمارة أبو ظبي -!!..
والاتحاد بطبيعة الحال لا يملك في المرحلة الراهنة الشروط الذاتية الكافية لتجعله أحد طرفي الصراع في الوطن العربي، لا بل إن حركة الاتحاد لم تستطع حتى الآن أن تحمي نفسها من أن تكون سلاحاً في أيدي بعض القُطريات المتصارعة..
فالعالم العربي هو فعلياً ومنذ فترة من الزمن ساحة لجبهة تتغير أشكالها وصيغها فترة بعد أخرى.. ولكن طرفيها يبقيان هما هما، من جهة قُطرية متقدمة أو كبرى أو قُطريات أخرى، ومن جهة ثانية نزعة تشرذم في داخل إطار القُطريات..
وللعرب عدوان يحولان دون قيام اتحاد أو وحدة.. كلاهما قوي وكلاهما فتاك :
الأول : هيمنة القوى العالمية وتحديداً أمريكا باعتبارها المساند الأكبر لاسرائيل..
والثاني : هو الجغرافيا وتوزيع الثروات..
وهذه علة الصراع القطري : بلدان مكتفية، وبلدان غير مكتفية.. بلدان فقيرة، وبلدان غنية.. بلدان متقدمة حضارياً، وبلدان متخلفة.. بلدان لديها كثافة سكانية كبيرة، وبلدان ليس لديها كثافة سكانية بل تستورد مواطنين من الخارج.. كل هذا شيء يجعل تقدم العالم العربي على صعيد الاتحاد والوحدة بعيد المنال..
وهناك الهيمنة الدولية بأشكالها المختلفة التي أوجدت اسرائيل لتقوم بدور إبقاء التخلف والتمزق والتشرذم في العالم العربي قائماً مادامت هناك ثروات طبيعية، نفطية كانت أو غير نفطية، لأن التقدم نحو الاتحاد أو الوحدة يعني تهديد المصالح المتمثلة بالطاقة.. فالمواطن العربي بات يدرك أن ثروات بلاده تُسهم بتقدم دول أخرى، في حين أنه عاجز عن استثمارها ليتقدم هو.. ويدرك أيضاً أن تجزأة أمته ووطنه الكبير يساعد على إلتهام خيراتها وإبقائها تابعة للدول العظمى.. لذلك فإن القُطرية هي أحسن المواصفات التي تُرضي من تصطدم مصالحهم مع الاتحاد أو الوحدة أو أي تقارب يجمع ما بين العرب..
في الوقت الذي نجد فيه أن الأوروبين يتحدون بشكل أو بآخر، إلا أنه ممنوع على العرب أن يوحدوا أقطارهم، وهم من طينة واحدة وتجمعهم قواسم مشتركة تفوق بكثير مما يجمع بين الأوروبين وغيرهم من الكيانات الاتحادية في العالم..
ولهذا نجد أن الفتن والعداوات قد زُرعت بين العرب في عصر كان الاستعمار فيه مهيمناً عليهم، أو حتى بعد رحيله، حيث برع بتنصيب قادة، وعمل على أن يجعل من هؤلاء القادة يبسطون هيمنتهم بأساليب ديكتاتورية..
وبقي هؤلاء القادة لردحٍ من الزمن هم الأكثر قبولاً عند الدول المهيمنة، حتى وإن اقترفت أياديهم جرائم بشعة ومخجلة كما كانت عليه الحال قبل الربيع العربي..
وما كان يهم الدول الكبرى حماية مصالحهم.. المهم المصالح والمصالح وحدها!!..
* * *
bull;قبل إنهاء الموضوع لابد من كلمةٍ تتعلق بالشأن الخليجي :
إن دعوة الاتحاد التي صدرت من الرياض، كانت أقرب ما تكون إلى ردة فعل لما يجري من أحداث في المنطقة، وخاصةً بعد أحداث البحرين.. وإلا لماذا لم تصدر مثل هذه الدعوات منذ أكثر من ثلاثين سنة عندما تم إنشاء دول مجلس التعاون الخليجي.. رغم أن شعوب الخليج كثيراً ما كانت تطالب بالتقارب والاتحاد بل والاندماج، لكن ذلك لم يحدث.. وهناك من يرى أن هذه الدعوة تمت لمواجهة إيران التي يرى البعض أنها هي المحرك للأحداث التي تجري في البحرين، وبالتالي فلابد من إخماد تلك الأحداث، فكان لابد من إرسال قطاعات من جيش درع الجزيرة لحماية البحرين من الاضطرابات التي زعزعت أمنها!!..
وبما أن المتظاهرين في البحرين ndash; الجارة الأقرب الى المنطقة الشرقية في السعودية ndash; هم من الشيعة، فمن الطبيعي أن تحمي السعودية حدودها من الاضطرابات، وخاصةً وأن المنطقة الشرقية تسكنها أغلبية شيعية..
ولمّا لم تُسوى الأمور، ولم تهدأ الحالة في البحرين كما كان متوقع لها، رغم الدعوات للتحاور أو تشكيل لجان دولية محايدة لتهدأة الصراع بين المتظاهرين وحكومتهم.. كان من الطبيعي أن تنبثق الدعوة للاتحاد، التي اتخذت لنفسها عدة منطلقات وشعارات من أهمها : الوقوف في وجه التحديات الخارجية (إيران)..
فردة الفعل هذه إذاً ليست كافية لصنع اتحاد بين ستة دول، فالاتحاد له مواصفات ومعايير أشرنا إليها في بداية المقال لا تتطابق مع الظروف الموضوعية المحيطة في منطقة الخليج..
bull;فإيران تواجه معارك متعددة مع أمريكا والغرب، ومنطقة الخليج تعج بالقواعد العسكرية المتقدمة، والقادرة على إقامة حرب كونية ثالثة، وقادة إيران ما فتئوا يُصرحون ndash; برعونة ndash; من أنهم سيقتلعون اسرائيل، ويحطمون الغرب، ويضربون أمريكا، و، و، و.. بل إن تهديداتهم واستفزازاتهم قد امتدت الى دول الخليج نفسها.. والقادة الإيرانيون كثيراً ما يربطون ما بين القواعد الأمريكية والغربية في منطقة الخليج، وبين مساعدة دول الخليج لهذه القوات باستهدافهم!!..
* * *
bull;أمام هذه الصراعات كان يجب أن تسود لغة الحكمة والعقل بين المتصارعين في المنطقة، وحتى الساعة فإن ذلك لم يحدث.. بل إن الاعلام التابع لكل الأطراف يعمل ليل نهار على تأجيج إشعال فتيل ما لا تُحمد عقباه..
الاتحاد بين دول الخليج كما كتب الأخ عبد الرحمن الراشد لابد لنا أن نتعامل معه بغاية الحرص والدقة..
ولكن هناك من الكُتاب ndash; كتركي السديري ndash; قد تناول هذا الموضوع وكأنه قضية خليجية بحتة لا علاقة لها بوطنٍ عربي بأكمله، إذ كتب عن تميز العرق الخليجي على غيره من الأعراق الأخرى قائلاً لمن تناول هذا الأمر من الكُتاب العرب بما معناه : (ما لك وما لنا.. نحن أبناء الخليج نحسم قضايانا فيما بيننا).. وهذا هو التجسيد الفاقع للحالة القُطرية التي أشرنا إليها..
وبالطبع هناك الكثير من الكُتاب أدلوا بدلوهم، ومعظمهم لا يستطيعون أن يكتبوا عن (المستور)، فأطلقوا العنان لقرائحهم ويراعاتهم ليكتبوا عن (المسطور)!!.. وأعني هنا أجهزة وكُتاب الإعلام عند كل الأطراف المتصارعة!!..
في ظروف كهذه ما أحوجنا إلى الحكمة والتروي والعقل بدلاً من التأجيج وإشعال الفتن.. كي لا تنفجر بقعة النفط التي نقبع عليها فتحرق الأخضر واليابس!!..