- 1-
أتابع ما يكتبه الدكتور شاكر النابلسي، وأُعجب بالكثير من أطروحاته، وأتحفظ على البعض منها، وما حفزني لكتابة هذا الموضوع أن الدكتور شاكر كتب في الأسبوعين الماضيين لقراء إيلاف موضوعاً يتناول التعريف بالثقافة ودورها في الحياة..
وبعد متابعتي للموضوعين وتعليقات قراء ايلاف عليهما،وجدت أنه لابد لي من أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع بطرح هذا السؤال:
من هو المثقف ؟!.. وهل هناك تعريف محدد لهوية الإنسان المثقف ؟!..
يتصور البعض أن المثقف هو ذلك الإنسان الذي يحشو كلماته بالمصطلحات الأجنبية، والذي يجيد الكلمات المنمقة، ويستشهد في أثناء حواره بالحوادث التاريخية،وهو على المام تام بمعظم التيارات الفلسفية والفكرية، مع إلمامه بالفنون الجميلة موسيقى إلى رسم، ونحت وتصوير وأعمال مسرحية، وسينمائية، ولابد أن يكون متابعاً لمعظم الانتاجات الثقافية والانسانية على مختلف الأصعدة وفوق هذا وذاك لابد أن يكون له موقف سياسي واضح.. الخ.. الخ.
ربما يكون هذا الإنسان مثقفاً ndash; أو هكذا ساد العرف ndash; لكن المثقف الحقيقي في يقيني هو:
ذلك الانسان الذي يُقلص أكبر قدر من السلبيات التي تحيط بمجتمعه مستخدماً في ذلك الأساليب المتفق عليها عُرفاً وقانوناً، على أن يعود النفع في النهاية على المجتمع ككل..
وقد يكون هذا الانسان عاملاً أو مديراً، أو مدرساً، أو وزيراً أو حتى حاكماً!!.. إن المثقف الحقيقي إنسان زودته المعرفة والتجربة برؤية شاملة للحياة، وقادته هذه الرؤيا الى موقف انساني يلتزم به.
إن المثقف بهذه الصفة.. مرتبة تميزه عن المتعلم، فهو ليس مجرد إنسان مكتظ بكم معرفي، بل عليه فهم ما يجري حوله وأن يكون مؤثراً في مجتمعه، مصمماً على أن لا يغادر الحياة قبل أن يغير فيها شيئاً ndash; يكون ايجابياً ndash; أو يقدم لها إضافة ما.. فإن لم ينجز ذلك، فهو على الأقل.. يحاول!!
وقد كان هذا دائماً حال المثقفين منذ هوميروس الى الكندي وحتى الحلاج وجمال الدين الأفغاني.. أذكر هؤلاء كنماذج، بينما قائمة من ساهموا في دفع عجلة التقدم في الحياة الانسانية من المثقفين لا يحصرهم العد، فالمثقف لابد أن تكون له قضية، ولابد أن يضع قضيته موضع التنفيذ.
والثقافة في ضوء ذلك، ليست رداءاً يختال به المرء أحياناً، ويخلعه أحياناً، إنما هي.. لحم المثقف، ودمه، ونفسه التي لا يستطيع أن يستبدل بها نفساً أخرى، ومن أجل ذلك فالمثقف بطبيعته إنسان ملتزم، وهو حين يرفض أن يخدم رأياً لا يؤمن به، ويتمسك بأنه (عصفور طليق في رحاب الثقافة) لا ينبغي له أن يتقيد بشيء.
فالشيء المؤكد إذن.. هو أن الثقافة موقف من الحياة.. وقيمة إزدهارها في أي مجتمع لا يقاس بكمية الإنتاج الثقافي في هذا المجتمع، إنما بقيمته.
وفي عصر الشعوب الذي نعيش بوادره الآن قد تكون هناك أهمية للكم الثقافي ولكن بمعنى زيادة عدد المستمتعين بالثقافة وتيسيرها لأكبر عدد من الناس.. أي
بمعنى أن يكون هناك (كيف) راقٍ ميّسر لأكبر(كم) من البشر.
أما خارج إطار هذا المعنى، فقيمة الثقافة لا تحدد إلا بمدى عمقها، وصدقها وجديتها، وأصالتها، أو بعبارة أخرى بمدى مساهمتها في تغيير الحياة، والرد على تحديات العصر ودفع الأحداث في إتجاه تحقيق الطموحات الإنسانية.
هكذا هي رسالة الثقافة..
وبما أن الدكتور شاكر قد استشهد بسارتر، فلسارتر مقولة تُجمل ما حاولت ايضاحه في هذا الموضوع، فهو يضرب مثلاً بعامل مهنته تنظيف الشوارع (كنّاس) ولهذا العامل ساعات محددة يعمل فيها، وبعد الانتهاء من عمله يمارس حياته الطبيعية كأن يرتدي حلة قشيبة ويحمل باقة من الأزهار، ويتجه نحو حديقة عامة ليلتقي بحبيبته، وبينما هو في الطريق الى الحديقة يرى في الشارع الذي يسير فيه قمامة متناثرة تشوه منظر مدينته، فما كان منه إلا أن خلع سترته ووضع الأزهار جانباً وأخذ بتنظيف الشارع!!.. فسارتر يرى في هذا العامل إنساناً
إيجابياً في المجتمع رغم أنه لا يدخل ضمن زمرة محترفي الثقافة، ولكن التزامه حيال مجتمعه دفع به الى هذا الفعل الذي يراه من صلب الثقافة!!..
* * *
- 2-
ومن متابعتي لتعليقات قراء إيلاف على الدكتور شاكر حيث حمل البعض منهم على المثقفين، وكيف أن هؤلاء كانوا وبالاً على مجتمعاتهم بممارساتهم الانتهازية.. فلابد لي من كلمةٍ في هذا الموضوع أيضاً..
فبالرغم من أن معظم المثقفين يعرفون ndash; ولا شك ndash; مقولة (لينين) عنهم، إلا أنني أذكرها لعلها تذكرهم بواقعم..
يقول (لينين): quot;نحن لم يخامرنا الشك يوماً في ميوعتكم ورخاوتكم، أما أننا بحاجة إليكم فهذا ما لا ننكره، لأنكم العنصر المثقفquot;..
وأما عن دور المثقف الانتهازي في واقعنا العربي، فيقول عنهم كتاب (المثقفون في البلاد النامية) لمحمود العودي ما يلي: quot;بالرغم من التعاسة المتناهية لقدرة هذه الفئة ndash; المثقفة ndash; إلا أنها لعبت دوراً فعالاً في مختلف الأحداث، وبصورة مليئة بالتشوهات النظرية والعلمية منذ البدايات الأولى لمرحلة التحرير السياسي في أربعينات القرن الماضي وحتى بداية التسعينات، ومايزال معظمها كذلك حتى الآن في أكثر من مجتمع من المجتمعات النامية في المنطقةquot;.
أما لماذا ينطبق على بعضهم قول (لينين) و (العودي): لأنهم يأكلون على مائدة معاوية لأنها أدسم!!.. ويصلّون وراء علي لأن الصلاة وراءه أتم!!.. وعند القتال يقفون فوق الجبل فهو أسلم!!.. وكم تسلقوا على أكتاف الحركات الوطنية منتهزين حماسة الجماهير العطشى للحرية!!..
وكم كانت ومازالت تعاني منهم الحركة الوطنية في الوطن العربي.. والساحة لازالت تشهد صراعاتهم (الأيديولوجية) التي أدت الى المزيد من التمزق في هذا الوطن، بل إن البعض منهم كان أول من زرع بذور الروح الدموية، والطائفية، والعرقية، ونار الفتك التي لايزال سعيرها يشوي جماجم أطفال الوطن العربي.. فهم وأشباههم بديماغوجيتهم المعهودة وسفسطتهم المملة يكتبون من الآراء والأفكار ويدعون الناس للإيمان بها، في لجة الصراعات الدائرة الآن في سوريا ومصر والأردن وليبيا وتونس واليمن وغيرها، ولا تخلو من أطروحاتهم دول الخليج.. ولو أن تلك الآراء والأفكار قد طُبقت عليهم لكانوا ndash; واللهِ ndash; أول المحاربين لها، ولانقلبوا على أعقابهم، ولأظهروا وجوههم المستترة بقناع يُخيل إليهم أن الناس لا ترى حقيقتهم من خلاله.. لكنه قناع شفاف كم أظهر قبح وجوههم في أكثر من موقف بالذات فيما يجري في سوريا الآن.. فإذا كانوا ndash; كما يزعمون ndash; ضد هذا النظام أو ذاك فلماذا يجزلون العطاء بتدعيمهم لهذه الأنظمة ؟!.. ومن خلال مراكزهم الحساسة فيها ؟!.. أعرف مستشاراً مثقفاً للمسؤول الأول في بلدٍ تطحنه مأساة الصراعات اليومية، ولم نسمع لهذا المثقف صوتاً، بل نجده يدبج المقالات التي يكتبها وينشرها في الصحف بعيداً عن مأساة شعبه، وكأنه يعيش في كوكب آخر.
والله لقد عرفت الكثير منهم: أجد أن مقالاتهم التي تُنشر في وسائط الاعلام كلها تدافع عن الأنظمة.. ولكن في جلساتهم الخاصة يظهرون سخطهم على تلك الأنظمة!!.. أهناك ازدواجية أكثر من هذه ؟!..
إذا كان الرد ndash; كما يتذرع به بعض المثقفين دائماً ndash; أن ما يقومون به نوع من مهادنة السلطة، أو تكتيك مرحلي.. فهم أعلم من غيرهم بأن السلطة التي يأكلون على مائدتها ويمدحونها علناً، ويطعنون فيها سراً، أكثر ذكاءاً مما يتصورون.. فسعارهم اليومي عبر شاشات التلفاز وكل منهم يورد المبررات للدماء التي تجري هنا وهناك في عالمنا العربي ما عاد يخدع أحد.
صدقوني إنهم يعيدون للأذهان ndash; مع الفارق ndash; حكاية الدكتور (هربرت ماركوز) الذي أخذ يقود ثورة الشباب في العالم، وإذا بالأحداث تكشف أنه كان عميلاً للمخابرات المركزية الأمريكية..
إن الكلام عن انتهازية المثقفين العرب يطول ويطول.. ولكن هذا لا يعني أنه ليس هناك من المثقفين الشرفاء الذين يدفعون ثمن مواقفهم رغم قلتهم..
سامح الله الأخ الدكتور شاكر النابلسي الذي هيّج مشاعري في موضوع الثقافة والمثقفين الذي يطول شرحه.