المشهد المصري الآن مأساوي بكل المقاييس. . تخبط ومخاوف وهواجس واتهامات متبادلة بين الجميع، فيما الاقتصاد يتداعى والأمن يقف بينه وبين استرداد عافيته انتظار ظهور انفراجة في الموقف السياسي الملبد بغيوم سوداء، وتنظيم القاعدة يوشك أن يدق أبواب مصر بعد أن دانت له السيطرة على أغلب المناطق بسيناء، وقد استقر مناصروه وحاملو أيديولوجيته في مجلس الشعب، ليعيدوا بناء المنظومة القانونية والقضائية المصرية، بالطبع بجانب سائر مناحي الحياة المصرية، الأخلاقية منها قبل السياسية!!. . هي لاشك أخطر وأدق مرحلة في تاريخ مصر الحديث، بل ليس من قبيل المبالغة القول أننا بإزاء زلزال لا يقل عن ذاك الذي حدث عقب دخول حملة نابليون بونابرت إلى مصر بنهاية القرن الثامن عشر، والفارق أن الزلزال الأول كان بالتأكيد تنويرياً يأخذ مصر إلى العالم والعصر، فيما الثاني لا يبدو منه حتى الآن غير أنه انكفاء على الماضي الذي فشلنا طوال قرنين في الفكاك من ربقته!!
اللافت للنظر أنه في الوقت الذي كان ينبغي أن نعتبر نتائج الانتخابات الرئاسية مؤشراً على بداية نمو وعي جماهيري مفارق للتيارات الدينية، بعد النتائج الأقل من المعتادة أو المتوقعة لرموز هذا التيار، خرج علينا قطاع كبير من النخبة أو من ينسبون أنفسهم للثورة بخلط واختلاط للأوراق، أشاعوا به البلبلة بين الجماهير التي وجدت نفسها فجأة في محل إدانة، ليس لخضوعها وخنوعها لتجار الدين هذه المرة، ولكن لأنها أعطت تأييدها للمرشح الذي يعده أشاوس الفضائيات التليفزيونية من فلول النظام البائد!!
كل الاحترام لمن اختاروا محمد مرسي باختلاف دوافعهم، لكن المحبط والمؤسف هو هؤلاء أنصار من وحد نفسه بالثورة هكذا فجأة وبلا مقدمات، فصار يعلنها بوضوح هنا وهناك: quot;أنا الثورةquot; وquot;الثورة أناquot;، أقصد الذين تحولوا منهم الآن إلى كائنات مسعورة تهاجم الأقباط تارة ومن يسمونهم فلولاً تارة أخرى، هؤلاء هم التجسيد الحقيقي لمأساة الثقافة المصرية، ولأخطر ما ظهر حتى الآن من نوازع في الساحة المصرية منذ أحداث يناير 2011.
أتمنى أن يحترم الأقباط أنفسهم ولا يدافعوا عن اختيارهم لأحمد شفيق، بالطبع لمن اختاره فعلاً، فأحمد شفيق بالفعل هو المرشح الأوضح والأكثر حسماً في تبني مشروع الدولة المدنية الحديثة، ولو حدث وكانت أصوات الأقباط قد اتجهت بعمومها بعيداً عنه، لكان هذا دليل نقص خطير في وعي هذا المكون المصري المهدد جدياً في وجوده من قبل التيارات الدينية، وأيضاً المهدد من قبل التيار العروبي المتأرجح بين التعصب القومي والتعصب الديني، ذاك الذي كان يمثله أكثر من مرشح، على رأسهم ذاك الذي يجري من أجله الآن كل هذا البكاء والعويل!!. . الغريب أو الطريف أو المحزن أننا لم نسمع ممن يدعون الثورة لوماً لمن رفعوا أعلام القاعدة وصور بن لادن بميدان التحرير فيما سمي مليونيات أو جمع قندهار، أو من رفعوها في ميدان العباسية تحدياً للمجلس العسكري ومحاولة لاقتحام وزارة الدفاع، ويأتون اليوم للوم الأقباط على اختيار شفيق، فيا لهم من ثوار ويا له من وعي وطني جدير بالاعتبار!!. . بالتأكيد ليس الأقباط من البلاهة لكي ينتخبوا من سيجعلهم يلزمون أضيق الطريق ويدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون، ولم يكونوا ليصوتوا لدرويش وتاجر عروبجي مستعد لأن يبيع مصر كلها من أجل حفنة دولارات، ولم يكلف نفسه حتى مجرد التجمل بالانفصال عن الإخوان، بل دخل حزبه الانتخابات تحت جناحهم، ولم يكف طوال الوقت عن ترديد مقولاتهم عن تطبيق الشريعة الإسلامية، بل والتغزل بالشيخ حازم أبو إسماعيل!!
المشكلة أن الساحة السياسية والثقافية والإعلامية يسيطر عليها فلول العهد الناصري بشعاراته وأفكاره المفارقة للواقع والمعادية للعالم والتي تداعب مشاعر وغرائز الدهماء، ولعب هؤلاء دور السد المنيع أمام أي فكر حداثي متحرر ومتوافق مع العالم ومع العصر، وهاهم الآن يتحالفون مع الظلاميين أصحاب أسوأ فكر وتنظيمات عرفتها الإنسانية. . الحقيقة المرة أن الثورة المصرية لم تتضمن أبداً أفكاراً تحررية حداثية، هي فقط بجانب دعاة الظلمة والتخلف والإرهابيين ضمت من يريدون إعدام رجال الأعمال لعودة تكايا القطاع العام، وتقسيم الفقر بالتساوي على الجميع، ومن يريدون إلقاء إسرائيل في البحر ومناصرة الظواهري لتدمير أمريكا. . هي منذ البداية ثورة يضرب السوس في جماجم من قاموا بها باختلاف تياراتهم، فهي حركة جاءت للتمرد على واقع لعين، فظهر أنها أكثر منه وبالاً، لنظل أسرى تخلف نوغل مع الوقت في ظلماته.
يوم يثور الشعب المصري بحق سيبدأ بالثورة على النخبة المختطفة لوسائل الإعلام وللمشهد السياسي بعامة، تلك العمياء البصيرة المتاجرة بآلام الناس لصالح جيوبها المنتفخة بالملايين يحصلونها من مختلف الأطراف، هؤلاء الذين يدفعون الناس الآن للتهلكة في حضن الإخوان المسلمين، هم من ينبغي الانتباه لهم والاحتراس منهم، فهم أشبه بالضباع التي تجتمع لتنهش في جثة الوطن، بدلاً من أن يكونوا كما هو مفترض طليعة الوطن وفيالق تنويره، والنافذة التي يطل منها على العصر وحضارته وقيمه. . فما حدث أنهم بنظام التعليم المصري الذي يقتل ملكة الإبداع، ويسد مجرى الفهم لدى الطفل منذ نعومة أظفاره، تكلس عقل هؤلاء على مرحلة الستينات وشعاراتها وأفكارها، ورغم أن تلك الأفكار كانت بادية الحماقة في وقتها، إلا أنهم أيضاً عجزوا عن استيعاب انسحاب مثل هذه الأفكار وسقوطها في العالم كله، بداية من مواقع إنتاجها في روسيا والصين، وفي حين صارت روسيا والصين رفقاء لأمريكا والغرب في مسيرة التنمية الاقتصادية، ظل هؤلاء الأشاوس المصريين مفتونين بنغمة العداء لأمريكا ولكل العالم الحر وللعولمة التي اعتبروها وكأنها مؤامرة صنعت خصيصاً للقضاء على أحلام عروبتهم أو خلافتهم الإسلامية، فبقيوا على عدائهم الأثير باعتباره هو عين الوطنية والعزة والكرامة. . هنا يبدو لنا مربط الفرس، أمة تضع نفسها في حالة عداء مع العالم، ويصر صفوتها على بقائها في هذا الموقف، سواء بدعاوى دينية أو عروبية أو يسارية.
لاشك أن كلمة فلول هي من علامات التخبط الذي يضرب رأس مصر الآن، ومن أكثر الكلمات الشائعة الآن طرافة، فهي تعني بقايا نظام مبارك، وبغض النظر عن إساءة استخدامها عن جهل وسذاجة أو عن سوء نية وتوظيف تتعدد دوافعه، وبصرف النظر أيضاً عن أن الخمسة وثمانين مليون مصري هم بنوع ما من الفلول، وقد ساهم كل فرد فينا بنصيبه فيما حدث من إفساد لسائر مناحي الحياة في مصر، وليس فقط الجانب السياسي، فإن المذهل أن يكثر من استخدام هذه الكلمة من يعدوا أخطر أنواع الفلول. . فلول الإخوان وأجنحتهم الإرهابية الذين حرقوا القاهرة قبل ثورة يوليو في 26 يناير 1952، ثم حاولوا اغتيال عبد الناصر عام 1954، ليكرروها عام 1965، ثم اغتالوا السادات عام 1981، وحاول رجالهم في أديس أبابا اغتيال مبارك عام 1995. . تاريخ أسود طويل لفلولهم المصرة على القتل والكراهية والعداء لمصر الوطن لحساب مشروعهم المهووس بخلافة إسلامية. . لذا نحتاج للكثير من التحديد والدقة عند استخدام كلمة فلول، فهي تظلل بأجنحتها السوداء على ذات من يفرطون في استخدامها لأغراضهم الخاصة الأبعد ما تكون عن وجه الوطن!!
أيضاً كلمة شهداء ودماء شهداء من أكثر ما يبتذل الآن في الساحة المصرية، في انتخابات الرئاسة كانت دماء الشهداء أمانة في رقبة من تعود طوال تاريخه على أرصفة القاهرة السياسية أن يبيع صوته ووطنه لأمثال صدام والقذافي، وبعد فشله في تحقيق حلمه المستحيل تحولت الأمانة الآن إلى الإرهابيين وخريجي السجون الذين يعدوننا بالرجم والصلب وتقطيع الأطراف. . يستحسن عند الحديث عن الشهداء ودماء الشهداء، ولكي لا نخطئ العنوان الذي يجب أن نتوجه إليه أن نحدد أي شهداء نقصد بالتحديد. . هل هم الشهداء الذي طالبوا بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية في سائر ميادين التحرير قبل أن يخرج الظلاميون الإرهابيون من جحورهم؟. . أم هم شهداء ماسبيرو الأقباط الذين سحقتهم المدرعات لأنهم أرادوا أن تكون مصر وطناً لهم كما هي وطن للجميع؟. . أم نقصد الشهداء الذي غرر بهم الإخوان والسلفيون المتحالفون مع حماس وحزب الله، ودفعوهم لمهاجمة أقسام البوليس والسجون ومقار أمن الدولة، لكسر وزارة الداخلية المصرية وتجريد مصر من الأجهزة التي تحمي أمنها، لكي تدين البلاد لهم بعد ذلك، ويعيثون فيها فساداً كما يحلو لهم، وليتم إطلاق سراح المجرمين والإرهابيين، الذين وصل البعض منهم لأوكارهم في غزة في نفس ليلة الهجوم على السجون؟. . كلمة شهداء ودماء شهداء من الكلمات المقدسة، كما هي من مفاتيح المعضلة، فكم من دماء هؤلاء برقبة الإخوان المسلمين بالدرجة الأولى، وكم من دماء أخرى ستسيل في معرض تجارة المتاجرين ونفاق المنافقين؟!!
هل سيستطيع الشعب المصري أن يتجاوز حالة التخبط الحالية بأقل قدر من الخسائر، ليستقيم عوده ويجد طريقه نحو مستقبل أفضل، يحدد بوضوح وحسم معالمه وشروطه، ويفرز أو يطرح جانباً كل ما ومن يعوقه عن الوصول إلى أهدافه؟
الولايات المتحدة- نيوجرسي
[email protected]