مع مذابح الشعب السوري على يد شبيحة الأسد لا أدري ما الذي حرك في ذهني العديد من صور الحروب في تاريخ الجنس البشري السفيه؟
قالت الملائكة حين أطلعها الرب على برنامج خلق آدم قالت لا نفهم جدوى خلق هذا الكائن المفسد المخرب القاتل. أتجعل فيها يا ربنا من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟
أجابهم الرب بجواب غير مباشر يحوي في طياته كل الجدل الإنساني. قال الرب إني أعلم مالا تعلمون.
سوف أحاول أن أعرض عبثية الحرب في صور شتى مع مناظر القتل في سوريا وما تفعل الآلة الجهنمية التي طورها الكائن الذي اسمه الإنسان.
ما هي هذه الصورة الجديدة في بانوراما العلم والسلم التي أكررها أنا بدون فائدة لأن الجنس البشري لا يتعلم بالكلمات والأفكار بل بالعذاب جرعة جرعة فإما رجع وإما هلك واحترق وتلك الأيام نداولها بين الناس ولم يحل هذه الإشكالية إلا العلم حين وضع الإنسان يده على سلاح التدمير الكامل فلا يبقى على وجه الغبراء فردا يقال له إنسان.
في سورة القيامة تتكرر كلمة الإنسان كثيرا : بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره. أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه؟ بل قادرين على أن نسوي بنانه فنعيد له نفس بصمات الإصابع التي يتفرد به كل إنسان من 64 مليار إنسان.
بل يريد الإنسان ليفجر أمامه يقول أيام يوم القيامة. فإذا برق البصر وخسف القمر وجمع الشمس والقمر يقول الإنسان يومئذ أين المفر؟
لا بأس حتى الآن علينا عرض الصورة التالية عن فظاعة الحرب التي التهمت أرواح مائة ألف من العراقيين؟!
فقط أريد أن أنوه إلى أمرين أن مجلات در شبيجل التي أتلقاها منذ 25 سنة حبست عني حين وقعت المذبحة فصودرت ولم تأتني إلا بعد أن انتهى كل شيء. والأمر الثاني هذا التقرير لم تنشره جهة لأن تلك الأيام الحالكات كانت أمريكا تذبح العراقيين على مرأى إخوانهم الساكتين.
هذه الشهادة تروي عمق الأزمة في داخل الكيان العربي وأن مشكلتنا داخلية بحتة.
المذبحة في المطلع
نشرت مجلة در شبيجل الألمانية في العدد 15 الصادر في 8 نيسان من عام 1991م بعنوان quot;هل وقعت في الخليج جريمة حرب أمريكية؟quot; بعد أن كشف النقاب عن مذبحة مروعة تناولت القوات العراقية في (المطلاع) على الحدود العراقية الكويتية بعد أن غادرت القوات العراقية الكويت. والآن بعد مرور أكثر كل هذا الوقت قد تنجو هذه المقالة من المصادرة وتخرج إلى الضوء فيطلع القاريء على بعض من خفايا حرب الخليج.
ومن الغريب أننا في العالم العربي في وضع لا يستطيع المذبوح أن يقول إنني أذبح؟ في الوقت الذي نشرت هذا الخبر مجلة در شبيجل الألمانية.
quot; كان منظر الشارع الذي يقود إلى الشمال في العراق يحكي فصولاً من الجحيم لدانتي. فمع تصاعد سحب الدخان من حقول البترول المحترقة في الكويت وتدافعها إلى عنان السماء مثل الغيلان الفظيعة، تحولت الدنيا إلى ما يشبه الغروب. كان هذا المنظر قد أثر في الميجر (بوب ناجنت Bob Nugent) إلى مخ العظام.
قال الرائد الأمريكي لم أر مثل هذا حتى ولا فيتنام قالها وهو يلقي نظرة على مقبرة بطول كيلومترات من السيارات المدمرة والشاحنات المحترقة والجثث التي تدافعت إليها كلاب الصحراء من كل صوب والملقاة هنا وهناك في الصحراء.
بعض هذه الجثث قد ذاب عنها اللحم وتحولت إلى هياكل عظمية. وفي داخل السيارات المحترقة الجثث المشوية التي التصقت بمقود السيارة ببقايا كانت في يوم من الأيام أذرعاً وأيادي.
كانت مهمة الميجر البحث بين الأنقاض عن الوثائق العسكرية التي خلفها الجيش العراقي. ولكن لم يبق ما يستحق الاهتمام بعد الهجوم القاتل في 25 فبراير أي قبل وقف إطلاق النار مع العراق بثلاث أيام.
وفي ذلك اليوم الذي أعلن العراق انسحابه من الكويت قامت طائرات ف 16 والقاذفات المطاردة من حاملة الطائرات (رانجر Ranger) بمهاجمة قافلة عسكرية عراقية لساعات متواصلة، وهي ما تبقى من قوات الاحتلال العراقية في الكويت وكانت تريد الهرب باتجاه البصرة. ولكن القافلة تعرضت للقصف كعمل انتقامي لا يوصف بأقل من جريمة حرب.
وعندما أرادت هذه القافلة الهرب من الجحيم وهي هاربة إلى الشمال سقطت بشكل يائس في الفخ، وعلى الجانب من سلسلة مرتفعات (المطلع) كانت الدبابات الأمريكية من نوع (أبرامس ـ م ـ 1 ـ Abrams type M1)(1) تتقدم وهي الأحدث من نوعها في الترسانة الأمريكية تعمل بتوربينات غازية ومزودة بمدافع ملساء ألمانية الصنع، بحيث لم يبق أمام العراقيين إلا أن يستسلموا كما فعل عشرات الآلاف من رفاقهم من قبل. ولكن بدلاً من هذا فقد سقطوا ضحايا أعنف هجوم جوي حصل منذ بداية الحرب قبل 43 يوماً؛ فقد قام طيارو حاملة الطائرات رنجر مجددا بطلعات جوية كما ذكرت مجلة التايم وحملوا بشكل عشوائي من الصواريخ والقنابل العنقودية تحت الأجنحة بدون الانتظار للذخائر المخصصة لها والتي توضع في العادة على السطح.
إن الصور التي عرضت في التلفزيون عن مصير بقية القافلة في ذلك الوقت كانت مقاطع من الكارثة من شارع ذو ستة مجالات والممتد بين المطلع ومدينة صفوان العراقية.
هنا في هذا المكان انصبت على العراقيين حمم النيران كأنها حجارة من سجيل من القنابل العنقودية التي حولت السيارات والناقلات العراقية إلى عصف مأكول.
أما النصف الثاني فقد حاول الفرار عبر طريق آخر مزدوج وفي مخلفات الموت لهذه القافلة على مد النظر كان الميجر نانجت يبحث عن وثائق عراقية متبقية.
ماذا حدث فعلاً في حرب الخليج؟
لم يبق من آلاف العراقيين الذين وقعوا في هذه المصيدة على قيد الحياة سوى 450 فرداً. في حين بلغ قتلى الأمريكيين 124 شخصاً وهي بالمقارنة مع قتلى العراقيين الذي بلغ مائة ألف أو يزيدون يعد شيئاً تافهاً.
والآن وبعد أن انجلى غبار الحرب فإن الحجم الكامل للمأساة ظهر جلياً للعيان. وبدأت في أمريكا وبريطانيا موجة الشك والانتقاد الذاتي لما حدث. فالكاتب البريطاني مثلاً والمذيع الإخباري لحرب فيتنام (جون بيلجر John Pilger) قال: quot; لم تكن حرب الخليج إلا حمام دم من طرف واحد ولم يكن نصر الحلفاء إلا مذبحة جماعيةquot;
وما حدث في مطلع شهر فبراير 91م أن القافلة العراقية التي هوجمت كان طولها 16 كيلومتر يرافقها 60000 ستون ألف جندي عراقي وما أعلن عنه آنذاك أنه أبيد ما يزيد عن 90% من الأرتال المتقدمة ولكن المعلومات كانت تضيع في جعجعة الحرب أو تمر عبر مصفاة المراقبة الإعلامية العسكرية(2).
على كافة الأحوال فإن الخسائر على الطرف العراقي يصعب تعيينها خاصة وأن بغداد احتفظت بأرقام الإصابات لنفسها لرفع المعنوية القتالية عند الجنود. وعلى الطرف الآخر فعل نفس الشيء ( شفارتز كوبف ـ Schwartzkopfذو الرأس الأسود)(3).
وهكذا فإنه لم يخبر عن عدد الإصابات في الطرف العراقي وبذا فإن النموذج الفيتنامي عن عدد الجثث تم تجاوزه (Body Count) ولم تعد مناسبة في حرب تعتمد التكنولوجيا العالية وتخضع للمراقبة العسكرية التي تحاول الظهور ما أمكنها بأقل قدر ممكن من الضحايا و (نظيفة) إلى أبعد الحدود.
كم عدد الذين سقطوا من الجانب العراقي؟
قد يكون الرقم ما يزيد عن مائة ألف عراقي وهي حقيقة بدأ قادة المعارك من الحلفاء يؤكدونها من مركز قيادتهم العامة وثلثي الضحايا كانوا قد سقطوا لتوهم قبل بدء الحرب البرية.
والموت الذي استل أرواحهم كان بالقنابل من الجو قبل أن تبدأ معركة الإفناء الكامل على الشكل الذي كان يتصوره ذو الرأس الأسود. ولعل العدد كان أكبر من ذلك بكثير.
لقد تشكك تابع للاستخبارات العسكرية الأمريكية بصحة الأرقام قائلاً:quot; إن شبابنا في ساحات القتال لم ولن يعدّوا الأرقام من القتلى؟ بكل بساطة كانوا يجمعون أكوام الجثث ثم يطرحونها في مقابر جماعية ثم يسوونها برمال الصحراء. وكانت الطائرات الأمريكية الهليكوبتر من نوع الأباشي لها الدور الأكبر في ذلك.
وهناك شهود عيان ممن رأوا المذبحة من خلال أشرطة فيديو عرضت عليهم من الفيلق الثامن المحمول جواً (4).
قال المراسل الصحفي الأمريكي(جون بالزر John Balzer) الذي كان يعمل لحساب التايمز من لوس أنجلس بعد عودته للولايات المتحدة الأمريكية:quot; كان فيلم الفيديو المعروض يحمل التفصيلات بشكل غير عادي. كان الفيلم مأخوذاً بالأشعة تحت الحمراء. لذا فإنه كان يومض ويتوهج بهذه الألوان الموحشة الكئيبة بين الأخضر والأبيض. ومن بين بعض اللقطات ما أثر على الرجال العسكريين الذين يستعرضون مناظر الموت إلى درجة أن بعضاً منهم بدأ يميل إلى القيء.
بدأ الفيلم يعرض لهجوم قامت به طائرات الأباشي ضد مجموعة من التحصينات والمخابيء العراقية، حيث بدأ المتبقى منهم على قيد الحياة يتراكضون من مخابئهم ليسقطوا مباشرة في جحيم النيران المنصب عليهم من مدافع الطائرات العمودية المصفحة والتي تطلق 625 طلقة في الدقيقة الواحدة.
يقول (بالزار):quot; كان الواحد تلو الآخر يحصد (بالحرف الواحد). وعندما سقط أحدهم على الأرض وتكوم والتوى على نفسه ثم حاول النهوض ثانية إلا أن الرشقة التالية عاجلته فمزقته تمزيقاً.
كان الجنود المتراكضون في كل اتجاه حذر الموت والذين كانوا يبدون مثل لاعبي كرة القدم في شاشة التلفزيون ولكنهم لم يفروا إلا إلى مواجهة الموت الذي كان يحصدهم.
هذا الجيش الصامت من طيارات الأباشي يعد من أشد أجهزة الإفناء ذات الفعالية الكاملة والتي استخدمت في حرب الخليج.
لقد بلغ عنف الإطلاق درجة مريعة عند الطيارين حدت بشفارتز كوبف أن يحذرهم من الاستعمال المفرط للطاقة النارية. بدواعي الكلفة؟ أن يقتصدوا في النار الذي به يقتلون؟quot;
كان الطيارون يذبحون العراقيين بدون أن يصيبهم ولا رشاش دمهم المتدفقة.
روى أحد طياري الأباشي المدعو (رون بالاك Ron Balak):quot; كنا نذبحهم في الظلام جماعات جماعات، ولم نكن نأبه من تصيب؟ وماذا تصيب؟ وقال لي صديق لقد بدا المنظر وكأنه هجوم على مزرعة خرفان قد فتحت ونحن نذبح فيها.
إن مثل هذا الوصف لما حدث من إبادة القافلة العسكرية والإفناء الكامل للخصم الذي كان يدور في مخيلة ذي الرأس الأسود (شفارتز كوبف) يثير الشعور أن حرب الخليج تبقى هي تلك الحرب القذرة من أمثال ما حدث في فيتنام.
تقول المؤرخة الأمريكية (روث روزن Roth Rosen) من جامعة كاليفورنيا وهي تعزي هذه الروح الإجرامية إلى سينما هوليوود وثقافة العنف من أمثال فيلم (فوهة المسدس Top Gun) ورامبو التي تنفخ هالة البطولات العسكرية.
أما المحلل الصحفي (جون ليو John Leo) فإنه شنع بمقالة كتبها في مجلة أخبار أمريكا ـ التقرير العالمي بقوله:quot; إن أفلام الفيديو المعروضة من العسكريين تبرز حقيقة الوهم في النزاعات (العقيمة والنظيفة كذا؟ ) وكل ما عرضوه لا يزيد عن تذوق كامل لمناظر الرعب والهول الأعظم.
أما المحلل الأمريكي لحرب الخليج (دونالد كير Donald Kerr) والذي يعمل في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن فإنه أضاف يقول:quot; كان السلاح الغربي في عنف ومفاجأة الكارثة الطبيعية. تلك التي نزلت في الشرق الأوسط.
خذ لذلك مثلاً القاذف المتعدد من نوع (MLRS) فكل واحد من قاذف الصواريخ يقذف في الدقيقة الواحدة 7728 قذيفة.
إن الرعب الذي حاق بمنطقة (المطلع) يبقى رمزاً لعبثية وضع الأسلحة موضع التنفيذ ولا يبرره ما قيل بعد ذلك أن العراقيين الهاربين رجعوا بأسلاب وغنائم من الكويت. إنه يبرر فقط سخرية الأشياء وأنه أمر دبر بليل لإفناء الخصم.
هل يبرر القتل الجماعي أن جنوداً رجعوا بمسروقات من مثل جورب أو طلاء للأظافر أو سجادة أو عدسات غطس تحت الماء؟
أما الجنرال الأمريكي ذو النجوم الأربعة (ميريل مك بيك Merrill McPeak) ففي عرفه أن هناك ما يبرر هذه المجزرة!
قال الجنرال:quot; إن هذا يكمن في طبيعة الأشياء. أن هناك أمور شنيعة على المرء أن يقوم بها أحياناً. وفي مناسبة أخرى وصف نفس الجنرال الهجوم الجوي بنزهة جوية ممتعة؟!
لقد تم دفن العراق بيد أخوته الأشقاء الأشقياء العرب. ولم تكن حربا بل مسلخا حقيقياً. وكان حق الفيتو في الشرق الأوسط ولم يكن في مجلس الأمن. وبجانب القوات الأمريكية اصطفت القوات العربية في منظر سيريالي. وتدور الدائرة على كل العرب وتتكرر قصة الثيران الثلاثة. ألا إني أكلت يوم أكل الثور الأحمر.
يبدو أن كل ما نكتب ليس له أي قيمة. ولا تتعلم الشعوب إلا بالعذاب الأليم. ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون. فتزاد الجرعة على أمل الرجوع ولا تزال في ازدياد بقدر النوم إلى حين الاستيقاظ على الألم وشدته.
أما صدام فقد اعتبر نفسه يومها أنه هزم العالم ولذا فهو يستحق أن ينتخب مائة بالمائة بقدر حجم الكارثة.
فعلا انتخب مائة بالمائة وأنهى حياته على المشنقة وسقطت العراق في مستنقع الفوضى والتفسخ مثل أي جثة ميتة، فهل سيكون مصير سوريا مشابها للمصير العراقي؟
هل يحق للفأر أن يتشاءم إذا رأى قطة سوداء؟
ــــــــــــــــ
(1) من مهازل الحرب أن الروس كانوا قد باعوا العراقيين دبابات (ت 72 ) تحمل مدافع بمسافة رمي أقل من دبابات أبرامس الأمريكية وهو سر نقل بالطبع للأمريكيين. وهو يعني أن الأمريكيين ليس عليهم سوى أن يبتعدوا بمسافة أبعد من مسافة رمي الدبابات العراقية وحرقها مثل دمى الأطفال. إنها لعبة ممتعة كما نرى. وهي تؤكد القانون الذي يقول: إنه لا يعقل أن تنتصر على خصمك بسلاح صنعه خصمك (2) حتى أن نفس أعداد مجلات در شبيجل انقطعت عن ورودها بما فيها هذا التقرير عن المذبحة وبعد أن انتهت الحرب جاءت الأعداد دفعة واحدة. كنت أفكر في شفارتز كوبف وهو يضحك علي ويقول إن أردت القراءة فتفضل الآن بعد أن أنهينا عملنا ونقب في حصاد الهشيم (3) شفارتز باللغة الألمانية تعني أسود وكوبف تعني رأس فيكون اسمه مترجماً إلى العربية ذو الرأس البهيم ولعل أصوله البعيدة ألمانية وقد أدى عمله بالدقة الألمانية المعهودة (4) بلغت آلة القتل من الدقة والإنجاز ما تقوم بعملها مع التصوير للعملية مثل إجراء أي عملية جراحية في قاعة العمليات
التعليقات