الوضع الذي قام في العراق، على الأقل في حزيران 2004 الذي شهد مسرحية نقل السيادة من بول بريمر إلى أعضاء مجلس الحكم المشؤوم، لم يقم، كما قام غيره من أنظمة سياسية في دول مشابهة أخرى، على أسس واضحة يمكن فرزها والتعرف على طبيعتها وتصنيفها. هل هي ديمقراطية أم ديكتاتورية، دينية أم علمانية، مدنية أم عسكرية، جمهورية أم ملكية، يمينية أم يسارية، رأسمالية أم اشتراكية، أم إنها خلط عجيب من كل لون وطعم ورائحة؟. إنها شكل جديد مبتكر ينفرد به العراق من بين دول الجوار والمنطقة والعالم. نظام ديكتاتوري ديمقراطي، ديني علماني، عسكري مدني، جمهوري ملكي، رأسمالي اشتراكي. والدولة فيه دول متنافرة وجزر شبه مستقلة وإقطاعيات مسورة ومسيجة يصعب اختراق أسلاكها الشائكة وجدرانها الكونكوريتية الشاهقة. والحكومة فيه ، هي الأخرى، حكومات وشلل وامبراطوريات موزعة ومسجلة عقاريا باسم كل زعيم من زعماء التجمعات والمليشيات المتآخية المتحاربة.

باختصار، ومن خلال الوقائع المرافقة لحكم النخبة المتنافرة المتشاركة في السلطة يمكن القول إن نظام الحكم العراقي الحالي دولة بلا حكومة، وحكومة بلا دولة، والعياذ بالله. هو شراكة مصالحية طارئة بين مجموعة من (الأولاد المشاغبين الشطار الصغار) لم يتم انتخاب أي واحد من أفرادها من قبل طائفته أو دينه أو قومه أو مدينته، ولكن كل واحد منهم، لوقاحته وقلة حيائه وحنقبازيته وشقاوته، يدعي تمثيل طائفته أو قوميته أو دينه في هذه اللعبة السمجة المخجلة. والحقيقة التي يعرفها الجميع أنهم جميعا لملمهم القائد الأمريكي، في غفلة من الزمن، من أزقة السيدة زينب في دمشق ولندن و عمان والرياض وطهران وقم، وجعل منهم رؤساء ووزراء ونوابا وسفراء ومدراء وأصحاب مليشيات ورؤساء مجالس وزعماء أحزاب وتجمعات مفتعلة ومختلقة. وهي في واقعها عصابات أنشأها ومولها وسلحها ونظمها ودربها وأمسك بقيادها ممولٌ أجنبي، أمريكي أو إيراني أو عربي قومي أو عربي سلفي، أو حاكم أناني خبيث من حكام دول الجوار لا يريد للعراق أن يعرف العافية والاستقرار والازدهار.

ويكفي التدقيق في معاركهم الحالية الأخيرة، وخاصة في تهديدات كل شريك منهم لشريكه الآخر بسحب الثقة والإقالة، لإثبات أن الثمن المطلوب لإطفاء نار هذه الحروب العبثية الماجنة هو، فقط، توبة الشريك عن الطمع في ممتلكات شركائه، وعودته صاغرا إلى اتفاق أربيل، والالتزام بما وقع عليه ثم لحس توقيعه بعد ذلك. أما الوطن وأهله اليتامى، وأما الديمقراطية التي يتغنون بها، وأما النزاهة، وأما الوطنية فليس لها جميعا مكان على قائمة مطالب فرسان العاصمة الأقوى أربيل، ولا في خطابات دولة الرئيس أو أي واحد من مريديه ومحبيه النشامى.

تعالوا نتأمل. من ياتي بعد المالكي إذا ما حدثت المعجزة وأسقطه خصومه؟ دققوا معي وتأملوا الوجوه المعروضة للخلافة. (تريد أرنب خذ أرنب، تريد غزال خذ أرنب). يعني أن نصيب العراقيين هو أحد الأرانب المفتحة في اللبن المغشوش. حرامي بدل حرامي، ومزور شهادات بدل مزور شهادات، ومنافق بدل منافق، وديكتاتور بدل ديكتاتور، ومتخلف بدل متخلف، وأمي بدل أمي، وشلاتي بدل شلاتي، وكان الله يحب المحسنين.

يوم عقدوا اجتماع المائدة المستديرة في أربيل تنبأ كثيرون منا، نحن الكتاب السياسيين المشاكسين، بأن الشراكة الثابتة والدائمة بين هؤلاء الصغار لن تتحقق، وإذا ما تحققت، بقدرة قادر، أو لحاجة عابرة، أو بضغوط أمريكية إيرانية سعودية قاهرة، فلابد أن ينفرط عقدها فور زوال تلك الظروف وانتفاء تلك الحاجة.

يومها غضب علينا كثيرون من قرائنا ذوي النوايا الحسنة، وشتمنا معوقو دولة القانون وطرشان العراقية وعميان الحزبين الكورديين وغربان البعث الطريد.
ثم جاء الزمن، في هذه الأيام المغبرة الأخيرة، ليعلن المالكي نفسُه أن quot;مبدأ التوافق الذي كنا بحاجة إليهquot; في الأعوام الماضية قد quot;انتهى الآنquot;، ثم يكشف سرا خطيرا. يهدد باقي شركائه السابقين بأنه يملك ملفات خطيرة عديدة عن كل واحد منهم، وسيعلنها إذا ما أضطر لذلك. يعني أنه لن يعلنها لوجه الله والوطن والنزاهة والشرف والأمانة، ولكن فقط إذا اضطر لحماية الكرسي.

ألم اقل لكم إن هذه لعبة أولاد صغار؟ فإذا كان المالكي وطنيا نزيها وشريفا ومخلصا وصاحب مباديء ويرفض مهادنة القتلة الإرهابيين فلماذا قبل الشراكة مع أصحاب تلك الملفات الفضائح؟ ولماذا لم يهدد بالاستقالة حين أجبره الأمريكان والإيرانيون على إتمام صفقة مؤتمر أربيل التي لمتفرض عليه فقط مصافحة طارق الهاشمي وصالح المطلق وأسامة النجيفي والطالباني ومسعود، بل أن يطبع قبلات كاذبة على وجناتهم، علنا، وعلى شاشات التلفزيون، ولا يستحي؟

مشكلتنا في العراق اليوم هي أننا بلا قادة، من أي نوع. ومرة أخرى، لولا أمريكا وفعلتـُها الناقصة لما شمَّ أحدٌ من هؤلاء رائحة القصر الجمهوري، ولا سار بجانب حائط البرلمان. لدينا ساسة بلا لون ولا طعم ولا رائحة، ولدوا وترعرعوا في دهاليز أحزاب المعارضة السابقة، وعلى عطايا دول الضيافة، وأفضال ِ مخابراتها.

إن السنة العرب العراقيين بلا زعيم. وبالمقابل، ثبت أن أدعياء تمثيل الطائفة الشيعية العراقية لا يقلون عن الطائفة السنية تمزقا وتشرذما واحترابا على المصالح والكراسي.
والمشكلة الحقيقية الأولى والأخيرة هي في غياب المواطنة الصالحة في نفوس المتحاصصين المتسلطين على الوطن والمواطنين، وفي انفصال النخبة السياسية الفاسدة عن هموم الشارع العراقي وأحزانه ومشاكله وبلاويه.

إنها دولة الملفات السياسية المعيبة التي يريد بها حاكمٌ أبله أن يخدع شعبا كاملا ويقنعه بأن حروبه الدامية مع شركائه هي من أجل العدالة، ويريد بها معارضوه، بالمقابل، أن يجعلوا ملايين العراقيين يصدقون بأنهم يخوضونها بنزاهة، ولوجه الله، والوطن المسكين. وهم، جميعا، منافقون.

إن المطالبة بإصلاح النظام بأيدي قادة النظام أنفسهم أمر يشبه النفخ في قربة مثقوبة. فهذا النظام بني على باطل، وعلى أساس فاسد ومسموم، ولم يعد هناك أي أمل في أن نقطف الزيتون من شجر الصبير، والفل والياسمين من تلال القمامة ومزارع الرصاص والخناجر والكواتم الغادرة.

بدون لف أو دوران، إن العملية السياسية التي يقدسها المالكي، والتي يمسح بها معارضوه، ولا يتساهلون مع منتقديها، عملية ٌ فاشلة بامتياز، بل هي أصل المشكلة، بل هي المشكلة الحقيقية الوحيدة في حياة العراقيين اليوم وفي حياة أجيالهم القادمة كذلك، فهي صانعة جميع المصائب والمآسي والمآتم والحرائق التي ذاق مرارتها كل شارع في كل مدينة وقرية من هذا الوطن العجيب.
- والحل؟
- الحل مرهون بولادة جيل جديد من الناخبين الواعين المتعلمين القادرين على كشف حقيقة هذه المسخرة وقلب الطاولة على رؤوس أصحابها، ليصبح عاليها سافلها، ويتسلم زمام القيادة طاقم جديد من الساسة لا يعرف النفاق ولا الرشوة ولا تزوير الشهادات، يومها ستولد الدولة العراقية الراشدة العاقلة العادلة، والله المعين.أما متى يولد هذا الجيل فعلم ذلك عند رب قادر على أن يخرج الحي من الميت، وهو أرحم الراحمين.