على مدى عام وصلت الى مسامعنا تفاصيل متمايزة عن افتتاح مركز ثقافي عراقي جديد في لندن بعد اغلاق المركز السابق اثر اندلاع الحرب العراقية ndash; الايرانية عام 1980، كنا نأمل بهذا الحدث انفراج الوضع الثقافي، في العاصمة البريطانية، على اقل تقدير، بعدما وصل اليأس سقفه الاعلى من وئام الساسة العراقيين.
كنا نتأمل ان تشكل تلك الخطوة علامة مميزة في ميدان الثقافة العراقية في الساحة الاهم - بعد العراق ndash; لما تحتويه على نخبة من كتّاب واعلاميين وتشكيليين وشعراء وفنانين، شكلت على مدى اعوام تسلط النظام السابق، اضافة الى عواصم اخرى، الخزين الاهم للثقافة العراقية المناهضة للحروب والدكتاتورية وسياسة القمع، اضافة الى رفضها المتواصل للحصار الذي فرضه المجتمع الدولي على الشعب العراقي. ولعل البيانات واللقاءات والحملات والاصدارات والمؤتمرات التي نظمها المثقفون العراقيون في لندن، الدليل الملموس والشاخص على ارتباطهم بقضايا وطنهم وشعبهم.
وفي ظل انتظار طويل ومرير جاءت التفاصيل لتبلور التخبطات التي يعيشها العراق.. واولها تعيين زوج ابنة وزير الثقافة مديراً للمركز الثقافي، اما كادر المركز فقد تم تعيينه عبر مبدأ الوساطة والمحاصصة. ويا ليت كانت الوظائف من نصيب كاتب او فنان او شاعر او حتى اكاديمي ليتمكن من تفعيل الثقافة العراقية في بريطانيا.
تم افتتاح المركز مساء 23 حزيران الجاري بعد توجيه دعوات لمجموعة من المثقفين العراقيين، في حين تم استبعاد مجموعة واسعة من مثقفين فاعلين في الساحة البريطانية، وانا احدهم. لم اهتم بالموضوع كثيرا اول الامر، وحسبت ان الموظفين الجدد لا يمتلكون قائمة بتفاصيل الاتصال بكل المثقفين، لكن بعد حين تبين لي عن طريق صديق كان مدعواً للافتتاح، بأن الامر كان مقصوداَ تحت ذريعة ان القاعة ليس بامكانها ان تستوعب اخرين.. هكذا وبكل سهولة تحولنا الى اخرين.
على الصعيد الشخصي كنت طوال 22 عاماً من المنفى اعمل بجد على تمثيل وتقديم العراق في كل مهرجانات النحت والرسم العالمية، وكنت افضل رفع العلم العراقي رغم حيازي على الجنسية الدنماركية، وكان اخرها قبل شهر تقريبا في باكو عاصمة اذربيجان، حين سألني المسؤولون في المهرجان عن اي بلد سأمثل في المهرجان، فأجبت بلا تردد: العراق.
مرة واحدة في دبي مثلت الدنمارك، وقد حضر السفير الدنماركي وعبر عن سعادته وامتنانه لرفع علم بلاده.
المركز الثقافي العراقي في لندن بدلاً عن أن يستقطبنا جميعا لينمو ويكبر بنا ويستثمر امكاناتنا وعلاقتنا بالاوساط الثقافية البريطانية، الا انه اقصانا.. وهو الخاسر الوحيد، اذ سوف يسير على عكاز بائس صنعه الاشخاص الذين تم استشارتهم لتوجيه الدعوات.. تلك الاستشارة قد عبرت بوضوح لا لبس فيه، عن عقد نفسية وامراض ذاتية مستعصية تفصح عن حالة اقصائية تكمن عادة في نفوس الفاشلين.
مرة اخرى ترتكب مؤسسات العراق الثقافية المسؤولة عن رفد الثقافة، الخطأ التاريخي ذاته الذي طالما مارسه بتعمد النظام السابق وزبانيته داخل العراق وخارجه.
المضحك في الامر ان بعض موظفي المركز الثقافي السابق الذي كان تحت ادارة اعلامي عراقي مقرب من هرم السلطة السابقة ويملك حاليا قناة تلفزيونية فضائية، عاد ثانية الى الواجهة، اذ شارك احدهم بالقاء كلمة في حفل الافتتاح باسم المثقفين العراقيين في لندن!
كان من المفترض، من وجهة نظر الكثير، تشكيل لجنة من خمسة مثقفين عراقيين (من مختلف الاختصاصات الثقافية) يتسمون بالخبرة والمعرفة وبالعلاقة الحسنة مع الوسط الثقافي العراقي والبريطاني لتوجيه الدعوات على اسس صحيحة وصحية، بعيداً عن الخلافات الشخصية وضيق الافق والحسابات الذاتية.
والسؤال الذي يبرز جلياً هو: اليس من الجهل والمجازفة الخاسرة تعيين مدير مركز ثقافي عراقي، تنحصر علاقته بالثقافة كونه نسيباً لوزير الثقافة، الى متى تستمر اللعبة السمجة بالثقافة العراقية باعتبارها تابعة للسياسة واحزابها، وبالتالي تخضع لنظام المحاصصة المقيت.. الى الدرجة التي يتحول فيها وزير الدفاع السابق الى وزير الثقافة؟
لسنا بحاجة اليهم مطلقاً.. بل هم بحاجة الينا ومن دوننا لن يستمر وجودهم.. لا المال ولا المحاصصة ولا الوساطات ولا الاحزاب بامكانها ان تصمد امام قصيدة او لوحة او كتاب او نصب. فكم من حكومات ومؤسسات واحزاب اندثرت وغلفها النسيان، فيما ظلت الثقافة الحقيقية ورموزها ماثلة في الذاكرة الجمعية، ما زال نصب الحرية والجواهري وعبدالملك نوري والسياب وخالد الرحال وحافظ الدروبي وغائب طعمة فرمان وزهور حسين ومعروف الرصافي وفائق حسن وحقي الشبلي ونازك الملائكة وصالح الكويتي وناظم الغزالي والزهاوي ومصطفى جواد وروفائيل بطي.. والمئات غيرهم، في ذاكرة العراقيين على مر الاجيال والعهود.
من المفيد القول ان طال الزمن ام قصر ستتغير الحكومة والوزير واتباعه، وحينها سنسالهم: ماذا جنيتم من ذر الغبار في الهواء؟ وأيضا سنسال البعض ممن صمتوا: لماذا غلبكم الصمت.. وساهمتم في ذلك الموكب الجنائزي الحزين؟
على الصعيد الشخصي حصدت عام 1985 جائزة الواسطي في الرسم، اضافة الى حصولي على جوائز النحت العالمية الكبرى في دبي وطهران وبيروت واقمت عشرة معارض شخصية في كوبنهاغن والمانيا ولندن وعمان ودبي وبيروت وباريس، وسيكون معرضي المقبل في نيويورك، كما شاركت في 80 معرضاً جماعياً حول العالم وتحتفي مدن مهمة بـ 15 نصباً نحتياً من اعمالي.
لا تهمني حقاً الدعوة، كما لا تهم الكثير ممن لم توجه اليهم، بل يهمنا ان نرى العراق يحيا في ظروف طبيعية، وان تزدهر ثقافته مثل بقية دول العالم.. وهنا اتساءل بكل براءة: هل وجهت دعوة الى الشاعر سعدي يوسف وعلي الشوك وناظم رمزي والعشرات من المثقفين الفاعلين في ثنايا الثقافة العراقية في لندن. فالانظمة في الغالب لا تكافىء الا من يدور في فلكها، اما الشريحة التي لا تملك سوى ابداعها واحترام ذاتها وتتألم لخراب العراق، فهي في حالة حصار في كل الازمنة.. وفي كل الظروف.
ختاماً ان على القائمين على ادارة المركز الثقافي العراقي في لندن ان يعوا جيداً انهم من دون مثقفين حقيقيين سيبقى مركزهم مجرد بناية من سمنت وآجر في حي quot;شبردس بوشquot; البائس، كما ان مجافاة المبدعين هو ضرب من الغباء وبداية لخراب اخر.
* فنان تشكيلي عراقي مقيم في لندن
التعليقات