كانت الساعة الرابعة بتوقيت القاهرة من يوم الأحد الرابع والعشرين من يونيو 2012 لحظةً تاريخيةً ربما فاقت في أهميتها لحظة تنحي الرئيس المخلوع حسني مبارك في الحادي عشر من فبراير العام الفائت..ففي هذه الساعة نطق المستشار فاروق سلطان بعد خطاب ثقيل وممل بالجوهرة التي اشرأبت أعناق الملايين حول العالم في انتظار سماعها وهي فوز الدكتور محمد مرسي برئاسة أهم دولة عربية كأول رئيس مدني في أول انتخابات تعددية حقيقية نزيهة..

أعاد فوز الدكتور محمد مرسي شيئاً من الطمأنينة التي كادت تقتلها إجراءات المجلس العسكري الانقلابية، ولم يكن القلق قاصراً على منجزات الثورة المصرية وحدها بل على الربيع العربي كله، وعلى الثورة السورية تحديداً التي كانت ستصاب في مقتل بعد عام وثلاثة أشهر من التضحيات الأسطورية فيما لو أجهض النموذج المصري الماثل أمامها، وكانت أنظمة الاستبداد والفساد في البلاد العربية ستقهقه بفجور فيما لو نجح مرشح النظام المخلوع أحمد شفيق، وربما لكان هذا النجاح مغرياً لهؤلاء الحكام بالتفكير الجاد في لعبة الديمقراطية المسلية ما دامت ستعيد إنتاج أنظمتهم، وبالتأكيد كانت تل أبيب سترقص وستشرب نخب الانتصار ابتهاجاً بفوز من يتخذ من كنزها الاستراتيجي مثلاً أعلى، وكانت شبكات النهب والفساد المحلية والعالمية المتغلغلة في مصر ستسكر وتنتشي حتى مطلع الفجر ابتهاجاً بتثبيت أقدامها في العهد الجديد..

لكن كفى الله المؤمنين شر القتال وجنب العباد والبلاد فتنةً كان وحده الذي يعلم إلى أي مدى ستصل، وكم ستحرق بنيرانها، وما دام فوز محمد مرسي قد حمل كل هذا القدر من الخير منذ اللحظة الأولى فإن هذا مبعث تفاؤل وأمل بأننا نطرق أبواب عصر جديد..

سارع الرئيس محمد مرسي إلى تعزيز هذه الحالة الإيجابية فور إعلان فوزه من خلال خطابه التصالحي التجميعي فهو قد تجنب في خطابه الأول عبر التلفزيون المصري أي لغة تصعيدية أو توتيرية تساهم في شحن النفوس وتوتير الأجواء وزيادة مستوى الاحتقان في الشارع المصري المحتقن أصلاً، وحرص على إرسال رسائل تطمينيةً عديدةً فهو قد سارع للوفاء بوعده بأن يكون رئيساً لكل المصريين فقدم استقالته من حزب الحرية والعدالة-مع أن من حقه أن يظل محتفظاً بموقعه الحزبي كما يحدث في الدول الديمقراطية- ولكنه أراد أن يطمئن الشارع بأنه لن يكون رئيساً حزبياً، وأعلن المرشد العام مبايعته للرئيس محمد مرسي ناسفاً بذلك كل الأراجيف التي تخوف المواطنين من دولة المرشد، فإذا بالمرشد هو الذي يبايع الرئيس وليس العكس..

وبدا توجه الرئيس مرسي نحو التهدئة والتصالح حتى مع المجلس العسكري رغم ما أظهره هذا المجلس من نوايا سيئة من خلال إعلانه الدستوري المكبل الذي سعى من خلاله لمحاصرة الرئيس والانتقاص من صلاحياته حيث قدم الرئيس مرسي الشكر للمجلس على إدارته للمرحلة الانتقالية، وأعرب عن تقديره واحترامه للجيش المصري ودوره العظيم.

لا يعني هذا التقدير لدور المجلس العسكري الإقرار بشرعية انقلابه على الدولة المدنية والديمقراطية لكن مرتكز سياسة الرئيس مرسي كما يظهر هو أن أجواء التهدئة وتخفيف الاحتقان هي التي ستنزع الشرعية عن أي محاولة انقلابية يفكر فيها المجلس العسكري..

لم يفت الرئيس مرسي كذلك أن يظل وفياً للثورة التي أوصلته إلى سدة الحكم فأكد في خطابه على حقوق الشهداء وضحايا الثورة، وبدأ جدول أعماله المزدحم في قصر الرئاسة بلقاء والدة الشهيد خالد سعيد وشقيقة الشهيد القبطي مينا دانيال وبعض مصابي الثورة، وأصدر قراره لطاقم الحراسة المحيط به بعدم منع أي من عائلات الشهداء من مقابلته..

في سياق رسائله التطمينية كذلك أعلن الرئيس محمد مرسي التزامه بتحويل الرئاسة إلى مؤسسة وتعيين نائب قبطي ونائب سيدة، كما أعلن نيته تشكيل حكومة ائتلاف وطني تقودها شخصية وطنية من خارج الإخوان وحزب الحرية والعدالة ولا تكون فيها الغالبية للإخوان، وأكد على مبادئ سيادة القانون وتوفير الأمن..

إذا أخذنا بعين الاعتبار شخصية الرئيس محمد مرسي التي تتسم بالقوة والمبدئية وحب العمل والإنجاز والتواضع والإيمان، وجلسات استجواب الوزراء في عهد مبارك في مجلس الشعب تشهد له بالقوة وعدم المداهنة في الصدع بكلمة الحق، وما يتواتر من قصص حول نهيه عن الإثقال على جنود الحراسة الخاصة به والرفق بهم من الوقوف في حر الشمس، وطلبه من طاقم الحراسة الخاص به التخفيف من موكبه وعدم التسبب في تعطيل المرور، وميله للتخفف من أعباء البروتوكول الرسمية، وميله للبقاء في شقته المتواضعة في التجمع الخامس، وقصص كثيرة تظهر تواضعه وصدقه وإيمانه فإن هذا يمثل عاملاً إضافياً للشعور بالطمأنينة تجاه قدرة هذا الرجل على تجاوز هذه المرحلة الصعبة وقيادة مصر حتى ترسو على شاطئ الديمقراطية والاستقرار فيكون له من اسمه مرسي نصيب..

لا نستطيع أن ننكر جسامة التحديات التي تنتظر الرئيس مرسي فهو حتى اللحظة لم ينل أكثر من لقب رئيس، بينما المجلس العسكري يسعى بكل قوة للمحافظة على نفوذه وهيمنته على مفاصل الدولة، ويسعى لتكبيله من خلال نزع صلاحياته، والتحديات بدأت في وجه الرئيس مرسي منذ لحظة إعلان فوزه والإشكال المتعمد الذي وضعه المجلس العسكري حول جهة أداء اليمين الدستورية، تأتي بعد ذلك تحديات عاجلة مثل إلغاء الإعلان الدستوري المكمل الذي يمثل تهديداً للدولة المدنية، وإنجاز الدستور وعودة الحياة الديمقراطية الطبيعية بجوانبها التشريعية والقضائية والتنفيذية والإعلامية، وتحديات فرض الأمن والتصدي لشبكات المصالح المتغلغلة في مؤسسات الدولة والتي لا يتوقع أن تسلم بحقيقة انتهاء عصرها بسهولة، وستسعى لافتعال الأزمات في كل مكان مثل أزمات الوقود والفلتان الأمني والتحريض الإعلامي وبث الشائعات، وغيرها..

لكن هذه المخاوف على جسامتها لن تقتل الأمل بنجاح الرئيس مرسي في تجاوزها والرسو بسفينة مصر على شاطئ الاستقرار، لأن فلسفة تقدم التاريخ تقتضي ذلك، ولا يمكن أن نتخيل أن ترتد مصر على أدبارها، ويعود العرب إلى حقبة الذيلية والتبعية بعد أن لاحت بشائر الفجر الجديد، وقد أثلج الشعب المصري قلوبنا في الأسابيع الأخيرة في ردة فعله الغاضبة على انقلاب المجلس العسكري فأثبتت غضبته أن الثورة لا تزال حاضرةً بقوة بعد عام ونصف من مخططات الإرهاق والاستنزاف المقصودة. وقوة حضور الثورة في الشارع المصري هو أكبر ضامن لإفشال كل المحاولات الانقلابية ولتمكن مصر من إتمام تحولها الديمقراطي وبدء خطوات النهضة الاقتصادية والسياسية..

أما هذه التحديات فهي قانون طبيعي لإبقاء الثوار في حالة استنفار وعمل، والمحنة هي التي تقوينا وترسخ أقدامنا، والضربات القوية وإن كانت تهشم الزجاج إلا أنها تصقل الحديد..

كلمة أخيرة/

كلمتي الأخيرة للذين صدعوا رؤسنا بالتخويف من حكم الإخوان وتباكوا على الدولة المدنية والديمقراطية التي سيقتلها الإخوان..أين هم الآن من انقلاب المجلس العسكري على حبيبتهم الديمقراطية والدولة المدنية..وهل يصدقون مع أنفسهم فيكتبوا عن خطورة العسكر على الديمقراطية نصف ما كتبوه عن خطورة الإخوان الذين أثبتوا من اليوم الأول لفوز مرشحهم بأنهم سيكونون الدرع الحامي لمدنية الدولة وإن فشلوا فإن صندوق الاقتراع كفيل بإخراجهم بسهولة، أم أن كل ما يخشى عليه هؤلاء الذين يفكرون من تحت أرجلهم هو quot;السياحة الشاطئيةquot; والحانات!!!

[email protected]