تقتربُ الغربانُ السود يوماً بعد يوم. ساعة بعد ساعة. يعلو نعيقها كلما نزلت قذيفة هاون ومدفعية على رؤوسنا. هاهي مدنُ الشرق الطالعة من الخيال تصير ركاما فوق البشر والأحلام والأساطير. جثثنا في الطرقات، وابتساماتنا مشلوحة على أرصفة الشوارع. تتقدم إلينا زواحفٌ قميئة قادمة من عصور ماقبل البشرية. تحطمُ مقتنياتنا، وتتجرّع دماءنا واهمة أنّ إكسيرَ الحياة سيجري في عروقها المشوهة ويمدّها بالحياة والجمال.

نتألّم إذ نرى أشلاءنا مبعثرة في كل شارع وحيّ، فنسلّي أنفسنا بنسج حلمٍ أخير: أنّ سياط الأشعة اللافحة التي تحلّل أجسامنا ستنفذ إلى الروح، وتغزل معها أكفانَ نورٍ تليق بطهرانيتنا، وأنّ رياح الربيع ستكمل رقصتها ونشيدها في الخريف على إيقاع نهر الحرية، وأنّ السماءَ التي علّقوها على مشانق الدخان، ستصعدُ كثيراً لتنأى عن بارودهم وتعانق الأريج الإلهي الطالعَ من شهدائنا.

آه يامدينتي العتيقة المتجددة... أيتها الرامحة في عمق الزمان والسامقة بين المدن الشابة! يامن جمعتِ بين حكمة الشيوخ في التحايل على نوائب الزمان وتألّق العروس... أأنت قوية حقاً بما يكفي لتواجهي سخط الحديد الزاحف فوق مسامك؟ شام التي اتكأتْ على ذراع قاسيون المهيب واغتسلتْ دهوراً بمياه بردى العذبة... أأنت منيعة حقاً على من يرجمك بالحجارة والنار، محمية بأجنحة الملائكة ودعاء الرسل وبركات الأولياء الصالحين؟ هل ستعيشين بعدنا للقتلة أم لحملة النور؟

أذناي مثقلتان بهذيانات آلهة مراوغة متجبرة. غربان تتنازع في أروقة الأمم المتحدة. تصارع بصلف ووقاحة لنهوي مدينة إثر أخرى. أذناي يخرشهما الصريرُ المتواصل لطاحونة العمران والبشر. أذناي تنزفان عويلَ أطفالٍ ونحيبَ نساءٍ وصراخَ فتيةٍ وشهقة عجائز. أيها المتأنقون الناعقون: أعيدوا إلى ثلاجاتكم ابتساماتك المراقة أمام الكاميرات، ووفروا أحلامكم الكابوسية بازدهار الخرائب في بلادي، فلدينا هنا المزيد من البوم والغربان. ألا ترون أجنحتها السوداءَ تسدّ الأفق، ونعيقها يبشّر بالفناء؟! أيّ مجد أن تفوز الغربانُ بالخرائب؟!

مازال القصفُ مستمراً على الغوطة الغنّاء. ترتجُّ الشآم ويملأ الغثيانُ نفوسنا، ونبكي لأنّ أخوة لنا يموتون كل لحظة في قدسيا والهامة والمعضمية وداريا وحرستا ودوما وجوبر وعربين وزملكا وسقبا وحمورية والقابون وبرزة. على العاصي أيضاً أنينٌ تردده النواعير. يعيدُ صداه الرستن و القصير، وتتداعى له أحجارُ قلعتي المضيق والحصن. في الفرات مواويلٌ حزينة تعبرُ الشطَّ من رئةٍ إلى رئة. هل من مكانٍ لطعنة سيف؟! يقولون لو كان الله معكم لنصركم. يالله لماذا تتركهم يتقولون عليك ويتهمونك بالتخلي عن شعبك؟ سامحك الله يارب!

مازال القصف مستمراً... أطلُّ من شرفتي لأرى أيَّ جرحٍ فتحَ ذلك الحقدُ الرجيم، فألمحُ حمائمَ ترفرف أسراباً وفرادى غيرَ عابئةٍ بطائرٍ معدني ضخم يحلّق منذ ساعاتٍ فوق البساتين. أسمعُ المآذنَ والكنائس ترتلُ أسماءَ الشهداء. ألاحظ عشراتِ القلوب البيضاء تبتسم في جيوب ياسمينة بلدية، وأشجارَ منثورٍ ودفلى تتفتّقُ أزهارها كتوتٍ شاميّ يهطل بغزارة فوق شفاه مورقة، وأشاهدُ عرباتِ فاكهة وخضار تجوب الأزقة والحارات بجرأة. رغم روائح البارود والدم ينمو الأملُ والشجاعة، ونربّي الزهرَ بحسب قانون التطور والاصطفاء أن يضاعفَ شوكه ويشدَّ عوده ليغدو أقوى من الصبار والسنديان.