شهدت الأيام الماضية تطورات مثيرة على صعيد الجهود الباحثة عن إيجاد حل سلمي للقضية الكردية في تركيا رغم ضجيج العمليات بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني، فقد أثارت التصريحات التي أدلت بها النائبة الكردية المعروفة ليلى زانا عن ثقتها الكبيرة بقدرة رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان على حل القضية الكردية سلميا، ومن ثم اللقاء الذي جمع بينهما عقب هذه التصريحات عن مسار سياسي يشارك فيه أكثر من طرف وجهة لإيجاد حل سياسي للقضية الكردية في تركيا في هذا التوقيت المثير.
لقاء اردوغان ndash; زانا جاء على وقع تصريحات إيجابية وجهود و وساطات تجري في السر والعلن للتوصل إلى حل ينخرط فيه حزب العمال الكردستاني، فاردوغان الذي طرح في عام 2009 ما سمي خطة الطريق الكردية قبل ان يغير الاسم إلى خطة الانفتاح الكردي ثم خطة الانفتاح الديمقراطي،استبق هذه الجهود بالإعلان عن تدريس اللغة الكردية كدرس اختياري اعتبارا من الصف الخامس، بل ان نائبه بولنت ارينش ذهب بعيدا عندما أعلن وللمرة الأولى عن أن خروج زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان من السجن إلى البيت رهن بترك حزبه السلاح. وفي مقابل هذه التصريحات جاء صوت القائد الميداني لحزب العمال الكردستاني مراد قره يلان من جبال قنديل في كردستان العراق ليقول: ( ان زمن حسم الصراعات عن طريق السلاح ولى أمرها ) مبديا الأسف لفشل المحادثات الرفيعة التي جرت بين حزبه والاستخبارات التركية في العاصمة النرويجية أوسلو العام الماضي.
دون شك، مثل هذه التصريحات والمواقف المتبادلة من الجانبين ليست سوى تعبير عن بلوغ الجهود والاتصالات السياسية الجارية خلف الأبواب مرحلة متقدمة، وهنا يمكن تسجيل جملة من الوقائع التي تشير إلى هذه الجهود والوساطات.
1- ان تصريحات زانا عن قدرة اردوغان على الحل جاءت بعد زيارة قامت بها إلى واشنطن مع وفد كردي رفيع المستوى، وقد جاء الوفد من واشنطن - حسب مسؤول أمريكي كما تقول صحيفة- حريات ديلي نيوز - برسالة واضحة من الإدارة الأمريكية إلى حزب العمال الكردستاني، مفادها : لقد حان وقت وقف العنف وترك السلاح والانخراط في عملية سياسية تؤدي إلى حل القضية الكردية عن طريق الحوار. 2- ان لقاء زانا - اردوغان جاء بعد أيام من قيام الأخيرة بزيارة إلى إقليم كردستان واجراء مباحثات مع القيادة الكردية هناك، لتتحدث الأنباء لاحقا عن وساطة يقوم به الرئيس جلال الطالباني بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني. 3- ثمة من يتحدث عن تزايد الضغط الأمريكي على أكراد العراق لمضاعفة الجهود بشأن إقناع حزب العمال بالتخلي عن السلاح، وقد كانت تصريحات رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني الذي زار أنقرة مؤخرا مؤشرا إلى هذا الأمر عندما طالب الحزب بالتخلي عن السلاح والانخراط في حل سياسي، وفي الأساس هناك تنسيق ثلاثي يضم أمريكا وتركيا وإقليم كردستان العراق لنزع حزب العمال. 4- المشاورات التي اجراها اردوغان مع زعماء المعارضة التركية بشأن خطوات حل القضية الكردية، واللافت هنا هو موقف حزب الحركة القومية المتطرف بزعامة دولت باهجلي الذي أعلن ان حزبه لن يقف في وجه جهود الحل بعد ان كان يرفض في السابق أي خطوة من شأنها الاعتراف بوجود مشكلة كردية.
الحديث على هذا النحو والذي يوحي بوجود حل ما وراء الأبواب قد لا يكون دقيقا أو صحيحا، نظرا لتعقيدات القضية الكردية، ولغياب الثقة بين الجانبين، ولرفض حزب العمال الكردستاني ترك سلاحه دون خطوات ملموسة تتجاوز وعود اردوغان الكلامية والتي تدخل غالبا في إطار الحسابات الحزبية والانتخابية، وفي الأساس يرفض الحزب الكردستاني أي حل لا يتوجه ممثل عن الأكراد في وقت ترفض فيه الحكومة التركية الاعتراف به وتضعه في خانة الإرهاب، فضلا عن كل هذا ثمة إشكالية تتعلق بكيفية تجسيد خطوات الحل، فاردوغان يريد تمرير دستور جديد يفتح الطريق أمامه للوصول إلى قصر تشانقاي الرئاسي بموافقة المكون الكردي في البرلمان، فيما الأكراد يشترطون مسبقا الاعتراف دستوريا بالأكراد وحق التعليم باللغة الكردية وإقرار حكم ذاتي لهم قبل الدستور الجديد، وهو ما لا يتطابق مع حسابات اردوغان ومخاوفه من انشقاقات اجتماعية وسياسية محتملة في بنية النظام السياسي التركي أو تحول مسار الحل إلى انشقاق كردي.
فوق كل هذا، ثمة قناعة عميقة لدى حزب العمال الكردستاني، بأن التقارب الحاصل بين حكومة اردوغان وليلى زانا ومن معها، يحمل معه دلالات خطرة على الحزب، منها ما يتعلق بالسعي التركي إلى تجريده من جناحه السياسي المتمثل بجملة التنظيميات السياسية التابعة له في ساحة كردستان تركيا والتي تعد زانا من أبرز وجوهها، وعن وجود ضغط أمريكي متزايد وراء كل ما يجري بهذا الخصوص، والأهم الخوف من تكون حسابات اردوغان نابعة من البعد الإقليمي المتمثل في السعي إلى ابعاد حزب العمال الكردستاني عن محور سوريا ndash; إيران في ظل تفاقم الأزمة السورية والحديث عن انخراط الحزب في هذه الأزمة لصالح النظام السوري، حيث تقول تركيا إن الحزب تحول إلى ورقة سورية - إيرانية ضد تركيا انتقاما منها لمواقفها المطالبة بإسقاط النظام السوري.
اردوغان في طموحاته السياسية الجامحة ربما يجد نفسه أمام هدفين مغريين متكاملين. الأول: إيجاد حل مقبول للقضية الكردية التي تشكل قنبلة في خاصرة الدولة التركية. الثاني: ان يكون هذا الحل عبر انتزاع حزب العمال الكردستاني من حضنه الإقليمي أي سوريا وإيران وكردستان العراق، لطالما ان مشكلة حزب العمال بدأت في تركيا ولن يكون حلها الا في تركيا. انه التحدي الذي يواجه اردوغان بل وتركيا منذ عقود.