في هذا القسم الأخير من مقالي عن الجزائر المستقلة وسنواتها الخمسين، أواصل حديثي مع سيد أحمد غزالي، رئيس الوزراء الأسبق، ورئيس حزب الجبهة الديمقراطية. موضوعنا الأهم كان عن الأحزاب وكيفية تعامل السلطة مع المعارضة الحقيقية، وسياسة تصنيع التشكيلات السياسية. وقبل حواري معه كنت اعتقد بأن حزب جبهة التحرير الوطني الجزائري (الأفالان) هو الحزب الحاكم، ربما لأنني من بلد ذاق مرارة الحزب القائد لخمسة وثلاثين عاماً، أو لأن المعلومة تنقصني بسبب سطوة التاريخ النضالي للجبهة، ولذلك فقد ركزت في سؤالي على مشهد الصراع الذي تفجر بين قياداتها عقب الإنتخابات التشريعية الأخيرة، وفيما إذا كانت تحمل أي دلالة على التوجهات السياسية. في إجابته قلّل غزالي من أهمية هذه الخلافات واستبعد أن يكون لها أي مضامين سياسية ذات شأن، واعتبرها مصطنعة، كما نفى بشكل مطلق أن يكون الأفالان حزباً حاكماً، مسترجعاً لتاريخ طويل من التحولات السياسية وضعت الحزب على هامش السلطة أو استخدمته كواجهة لها. يقول: quot; جبهة التحرير الوطني كانت حركة تحررية حاكمة في ميدانها في سنوات الحرب ضد المستعمر، وبعد أن تكلل نضالها بالإستقلال في العام 1962، أصبحت رسمياً حزباً سياسياً، أعضاء لجنته المركزية ومكتبه السياسي من القادة التاريخيين للجبهة، الذين كانوا ينحدرون من حزبي الشعب، والإتحادالديمقراطي الجزائري. أما الأمين العام فهو أول رئيس للدولة الجزائرية أحمد بن بلة، وهذا يعني إن الحزب كان حاكماً فعلاً آنذاك. ولكن بعد الإنقلاب الذي قاده بومدين في العام 1965، تغير الوضع بالإعلان رسمياً عن قيام quot;السلطة الثوريةquot; ممثلة بالمجلس الوطني الثوري، وتم تجميد حزب جبهة التحرير وإسقاط لجنه المركزية ومكتبه السياسي، ليتحول إلى مجرد جهاز، وتطلب ذلك استحداث منصب باسم quot;مسؤول جهازالحزبquot;.
ويضيف غزالي:
quot; بعد رحيل الرئيس بومدين، ووصول الشاذلي بن جديد إلى الرئاسة، افتتح عهده بالإعلان عن نهاية السلطة الثورية، ولزوم استعادة الحزب للقيادة، والواقع إن هذا التصريح الرسمي لم يكن يعكس واقع الحال، فالشرعية الثورية السابقة أسقطت لصالح شرعية عسكرية، والتي هي بدورها تقلصت مع الزمن إلى شرعية أمنية. وبهذا التطور فقد تحول الحزب إلى آلية بيروقراطية اشتملت على مئتي وستين عضواً في اللجنة المركزية، و سبعة أو ثمانية أعضاء في المكتب السياسي، و خمسة عشر ألف موظف، يشغلون ثلاثة آلاف وخمسمئة مقر، وكانت ميزانيته تنشر في الجريدة الرسمية ضمن تقرير ميزانية الدولة quot;.
إن مقولة الحزب الحاكم خرجت من قاموس السلطة الأمنية، كي لا تكون في الواجهة ولا تتحمل المسؤولية عن أفعالها، ولذلك، ما أن ساءت الأوضاع وزاد الإحتقان الشعبي، حتى خرج الشاذلي بخطاب إلى الناس quot; في يوم التاسع عشر من سبتمبر- أيلول من العام 1988، قائلاً : الوضع غير مرضي وهناك توتر اجتماعي، والحزب هو المسؤول quot;. وكأن الشاذلي بتصريحه ذاك قد أعطى المبرر لكل ما حصل من عدوان ضد الأفالان، حتى وهو أمينه العام.
ويعتبر غزالي إن ما وقع من عمليات العنف التي تفجّرت في الخامس من أكتوبر من العام نفسه، ضد البلديات ومقرات الأفالان، quot; كانت ظلماً بحق الحزب الذي لم يكن مسؤولاً عن تردي أوضاع البلاد، لأنه كان مجرد جهاز تابع للسلطة، والشعب كان يتابع مؤتمرات الحزب، ولا يعلم بأن المخابرات هي التي تنظر في توزيع المناصب وترتيب المهام، وهو يأسف لأن النظام قد ضلّل الناس آنذاك، فكان بعضهم يردد في المظاهرات : quot;الأفالان سرّاقون قتّالونquot;. وقد حاولت السلطة تدارك انفلات الأوضاع، فقامت بتعديل الدستور وإقرار التعددية السياسية في العام 1989. ويمضي محدّثي في تقليب صفحات التاريخ، فيقول: quot; في العام 1991 حصل حزب جبهة التحريرعلى نسبة تسعة بالمئة في الإنتخابات التشريعية، لأن معظم الناس اعتبروه مسؤولاً عن تدهور أحوالهم، وهكذا دفع الثمن، واستمر في حالة الجمود. وقد أدرك النظام الحاجة إلى تحريك سياسي وتعويض مكانة الأفالان المتراجعة بسببه، فذهب في العام 1997 إلى خلق حزب جديد هو التجمع الوطني الديمقراطي (الأرندي)، وكان كل مؤسسيه من الأفالان، فهو صناعة مخابراتية، فبعد تأسيسه بشهرين فقط، حصل على الأغلبية في الإنتخابات التشريعية، ما يشير إلى أنها كانت محسومة سلفاً quot;.
وفي تأكيد على حالة الجمود التي أصابت الأفالان، يشير غزالي إلى أحد الأمثلة، فيما قاله بو علام بن حمودة، الأمين العام للحزب ، في سنة 1999 من أنه quot; صدرت له أوامرquot; بتزكية ترشيح الرئيس بوتفليقة. كما اجتهد النظام في تنويع الأحزاب التي تسايره، من إسلامية إلى تروتسكية، وما بينهما من أسماء أخرى تقتضيها لائحة الإنفتاح السياسي المفترض . لكل ذلك يرى غزالي بأن الحاكم الحقيقي هو quot;حزب سرّي لا يظهر للناس، ويمتلك كل السلطة، وهنا تكمن صعوبة فهم النظام، وغموضه، فهو يعمل في الخفاء، ولا مجال للجدال السياسي المباشر مع أقطابه، يتسلل لنا ويسأل عن آرائنا، عبر عملاء تحت غطاء صحفيquot;.
خارطة الأحزاب في الجزائر إذاً كثيرة الألوان، وسياسة التوسع العددي، اسلوباً اتبعه الحكم منذ العام 1989، حين أجاز ستين حزباً، هذا ما ذهب إليه محدثي، في تفنيده لحالة التعددية السياسية الظاهرية، قائلاً : quot; في العام 1999، تقدمت إلى وزارة الداخلية بطلب الإعتماد لحزبي (الجبهة الديمقراطية)، بعد أن استوفيت كل الشروط التي تطلبها قانون الأحزاب الذي كان سارياً آنذاك، وبموجب المادة الثانية والعشرين منه، يعتبر الحزب معتمداً إذا لم تجب الهيئة المكلفة بالترخيص خلال شهرين، وهذا يعني إن (الجبهة الديمقراطية) أصبحت حزباً معتمداً منذ ذلك العام، لكن الواقع غير ذلك، فالحزب محظور بأوامر شفهية، ولا يسمح لي بأي نشاط جماهيري، أو حتى فتح حساب مصرفي باسمه. وكذلك كان الحال مع الدكتور طالب الإبراهيمي، وزير الخارجية الأسبق الذي تقدم بطلب اعتماد لحزبه (الوفاء) في العام نفسهquot;.
ويذكر إن الإبراهيمي كان قد اعتزل العمل السياسي منذ العام 2004، حين أقصي من الترشح في الإنتخابات الرئاسية، وكان غزالي قد ترشح أيضاً وناله الإقصاء، لكن رد فعله اختلف وظل مواظباً على النشاط السياسي، وهو لايجد تفسيراً لمنعه من حقه هذا، سوى لأن الحكم لا يرضى من المعارضين إلا الخضوع لإرادته وتنفيذ أوامره.
حديث السياسة في بلداننا العربية، ذو طعم مر، ولا سبيل للتخفيف من مرارة الواقع إلا بشيئ من الأمل، وقدر من الرضا بسلامة الموقف، وأنا أعجب من مثابرة بعض السياسيين، على الرغم من كل المسافات التي قطعوها، والأبواب التي ما فتئت تغلق بوجوههم، لعلّها نعمة الإصرار، أو النفس المطمئنة إلى هبة المستقبل، شيئ من ذلك كان يحمله حديث غزالي.
سألته عن حالة الأحزاب غير المصنّعة التي لها صلة قربى بالناس، ولو على مستوى مناضليها كأفراد، كتاريخ وانتماء، ماذا عن الشيوعيين مثلاً؟
أجاب: quot; ليس كمثل الشيوعيين مناضلين، ولكن للأسف لم يستطيعوا عمل شيئ، كما إن استراتيجيتهم خاطئة بالنسبة للأطروحة الإسلامية، وأذكر أحاديثي مع المرحوم الهاشمي شريف، سكرتير الحزب الشيوعي (الحركة الديمقراطية الإجتماعية)، كان مهتماً بتغيير المادة الثانية من الدستور، التي تقول بأن الإسلام دين الدولة، من الناحية النظرية الدولة ليس لها دين، فالدين للبشر، ولكن عندما تخاطب الشعب بأن برنامجك يتضمن العمل على تغيير هذه المادة، فإن الجماهير البسيطة لاتفهمك وتعتبرك بلا دينquot;، ويضيف غزالي quot; كنت أقول لمن حاورتهم من الشيوعيين، انتم بحاجة لأن تتصرفوا كحزب يسعى لإقناع الناس ببرنامجه، وأن لا تركزوا على الأيديولوجيا، لا شك بأنهم مخلصون ولهم تجربة سياسية طويلة، إلا إن قيادتهم ورطتهم بمأزق، والنظام عمل على تقليص حزبهم وتكسيره.
قلت لمحدّثي : وماذا عن حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية (الأرسيدي)، و ماذا عن الإسلاميين؟
أجاب : quot; لم يسلم الأرسيدي من محاولات النظام لإضعافه، لكنه ظل متماسكاً ومستقلاً، وكمثال على ذلك فقد عملت السلطة على شقّه، ففي العام 2008، تقدم عمار بن يونس بطلب اعتماد لحزب جديد، وكان أحد وزراء الأرسيدي في الحكومة، لكنه لم يحظ بالموافقة، لحسابات سلطوية، قالوا نحن لم نرخص لأي حزب منذ عشر سنوات، فلنؤجل طلبه هذا حتى يحين وقت توظيفه لمصلحتنا، على الرغم من تشجيعها له على الإنشقاق، وقد بقي في الوزارة، إلى جانب الوزيرة خالدة تومي، مع إن الدكتور سعيد سعدي، رئيس الحزب آنذاك كان قد انسحب quot;.
ثم يمضي في شرح لعبة الأحزاب، بقوله:
quot; خلال خمسة عشر عاماً لم يعتمد النظام أي حزب، وفي ظرف أسبوعين، قبل الإنتخابات الأخيرة، أجاز خمسين حزباً، لماذا؟ لأنه يقصد تحطيم مصداقية الأحزاب، وبالتالي فقدان الثقة بجدوى التعددية الحزبية quot;.
أما عن الإسلاميين - والحديث مازال لسيد أحمد غزالي - فقبل التطرق اليهم لابد من تحديد معنى مصطلح الإسلامي quot; هناك فرق بين الإسلام الحقيقي، والإسلام السياسي، جبهة الإنقاذ (الفيس) حاولت احتكار الإسلام لأغراض سياسية، وكانت ترفع شعار: (قال الله وقال الرسول صوتوا للفيس) لإغراء الجماهير بتأييدها، إنها كحزب، لها تاريخها، لكن مناضليها مشتتون ومقصيون عن العمل السياسي. أما الإسلاميون من أحزاب السلطة، فإنهم في طريق مسايرتهم للنظام، ربما يراهنون على الزمن، ينتظرون فقد يأتي يوم ويجنون المصالح كما يحسبون quot;. ويضيف غزالي:quot; بن لادن أيضاً كان يدعي كونه إسلامياً، والأميركيون تحالفوا مع الإسلاميين في أفغانستان ضد السوفيت، ثم تغيرت الأوضاع، واليوم هم يبحثون عن السبل الكفيلة بالتواصل مع الإسلاميين الذين أفرزتهم تقلبات الحكم في بعض الدول العربية، أو يحاولون إيجاد تيارات إسلامية معتدلة، لتكون في خدمة مصالحهم quot;.
قلت له، على فرض إن (الفيس) شاركت في الإنتخابات، كيف ستكون حظوظها؟
ج : quot; دأبت السلطة على تخويف الناس من الإسلاميين، وما أراه إن أي انتخابات تجرى ويكون الخيار فيها محصوراً بين ممثلي النظام والفيس فإنها ستفوز بأغلبية، ولكن في حالة انتخابات حرة ونزيهة، ووجود أحزاب ديمقراطية حقيقية، فإن الخيارات ستتعدد، وبالتالي تقل حظوظ الإسلاميين، ولنعود بذاكرتنا إلى العام 1991، ولنحسب نسبة نجاح الفيس في الإنتخابات التشريعية، فمن المعروف إن ستين بالمئة من الناخبين المسجلين، لم يصوتوا، كما لم تحتسب مليوني ورقة، بسبب الأخطاء، وفي آخر المطاف حصلت الفيس على 26% من اصوات الناخبين المسجلين في القوائم الرسمية، وهؤلاء ليسوا كلهم مؤيدين لها، وإنما الكثير منهم عبّروا عن سخطهم على النظام، بمعنى إن الجزائريين المقتنعين بالتيار الإسلامي لم يكونوا يزيدون على عشرة بالمئة quot;. ويوضح غزالي موقفه من الإسلاميين بقوله: quot;أنا لست مع إقصائهم لمجرد أنهم إسلاميون، وكما ذكرت سابقا في هذا الحوار، فقد استوزرت في حكومتي إثنين من قادة الإنقاذ، اللذين رفضا سياسة الفيس في تفجير العنف، ما حدا ببعض الديمقراطيين إلى انتقادي، لاعتقادهم بأني أغازل الفيس، ولكن كيف يصح ذلك وأنا أتجه إلى المنشقين عن حزبهم، أكثر من ذلك فقد ذهبت بعض الإشاعات والتحليلات إلى وصفي بأني رجل الفيس في الحكومة، وكانت جهات من النظام تختفي وراء هذه المزاعم quot;.
في ختام صفحة الأحزاب وفصولها المؤسفة، هل نردد مع عامة الناس، والنظام أيضاً : ألله غالب ؟ يعلّق غزالي على ذلك بقوله:
quot; كل واحد يحمّل غيره المسؤولية والكل في نهاية الأمر يجمعهم هذا التنهد:( ألله غالب) كما لو كان اللاشعور يرجئ في شكل تمجيد لله، أمر هذه الأخطاء إلى الله من أجل إراحة الضميرquot;.
بعد ما تقدم كان للصحافة نصيب من الحديث، ولمحدّثي تجارب غير مشجعة مع بعض من يمتهنوها، فقد نقلوا عنه مالم يقله، أو أساؤوا تفسير ماقاله، أو انتزعوه من سياقه، لذلك أكدت له أنني لن أنقل عنه إلا بعد أن أطلعه على النص. قلت له لديكم صحف جيدة، جريدة الشروق مثلاً، تتضمن مقالات كثيرة تنتقد السلطة، ويبدو هناك مساحة من الحرية، فرد موضحاً :
quot; المستوى الثقافي والمهني للصحافيين يعبرعن ضعف، ولا توجد صحيفة على المستوى القيادي ليس فيها عملاء للنظام، يأتمرون بأمره، وجريدة الشروق التي اشرت اليها، هي خادمة للسلطة مئة بالمئة، على الرغم من تضمنها بعض المقالات الجيدة، وكانت إحدى الصحافيات العاملات فيها قد وضعت عنواناً عريضاً لحواري معها، لا يتفق مع ما قلته، بل ويحمل معنى مغايراً للنص الذي كتبته هي، قلت لها quot; أنني مستعد للمحاسبة عن مقتل بو ضيافquot; وهذا تعبير عن تقديري للمسؤولية التي تحملتها كرئيس للوزراء، فماذا كتبت الصحافية؟ quot; غزالي مستعد للمحاكمة quot; وشتّان ما بين المحاسبة والمحاكمة. إن كثيراً من عناوين الصحف لا تعبر عن المحتوى الحقيقي لما يقوله المتحدث وأحياناً لا تنسجم حتى مع ما يقوله الصحافي نفسه، ويراد في جانب منها تحقيق نسبة عالية من التوزيع عن طريق العناوين النافرةquot;.
ويعلّق غزالي بسخرية، على انشغال الصحافة بالحملات الإنتخابية، وكأنها في الولايات المتحدة، وكأن هناك أحزاب حقيقية تتنافس بحرية وفضاء مفتوح، وبإعداد زمني مسبق، مع علم الجميع بأن انتخاباتنا محسومة سلفاً، يقول : quot; في المغرب مثلاً يسمح بشيئ من التنافس، ليس تنافساً مطلقاً، لكن هناك هامشاً للتحرك، كيف نتحدث عن أفق انتخابي أو منافسة حرّة حين نتذكر على سبيل المثال، كيف عدّل الدستور خلال دقائق ليتسنى للرئيس بوتفليقة الفوز بعهدة ثالثة؟ وهذا ما دعاني للإجابة على سؤال صحافي من جريدة الخبر، حول إمكانية ترشحي للرئاسة في العام 2009، فقلت : لماذا أترشح والأمر قد حسم مسبقاً؟ لقد عمل النظام على تحطيم جهاز تفكيرنا، وبخاصة الصحافةquot;.
هموم السياسة لم تحجب صورة الوضع الإقتصادي، وبخاصة حجم التبادل التجاري بين الجزائر وفرنسا، وعنه يقول غزالي:
quot; منذ الإستقلال وحتى الآن، مازالت فرنسا تطمح أن تكون الجزائر بقبضتها، بأن تحتكر التجارة معها، وكان حجم التبادل التجاري مع فرنسا قد بلغ في العام 1962، ستمئة مليون دولار، ولو كان النظام قد أولى الإقتصاد ما يستحقه من الإهتمام، لكان التبادل أحد الركائز القوية التي تحقق مصلحتنا، والمشكلة ليست فينا فقط، بل في الجانب الفرنسي أيضاً، فكلا الطرفين لم يصلا بعد إلى رؤية صحيحة ومتوازنة لبناء تبادل تجاري قائم على المصالح المشتركة، ونظام الحكم لدينا لايمتلك الفكر والوعي اللازم لمعالجة التراكمات التي تثقل كاهل الإقتصاد quot;.
لم يقتصر حديثنا على الجزائر، بل تعداها إلى بلدان عربية أخرى، لخص غزالي رؤيته لبعض أوضاعها بالآتي :
quot; قبل أن يغادرنا الشهيد بوضياف بدقائق، كان يقول: خيرنا منا وشرّنا منا،
وهذا صحيح، فما كان بوسع الدول الأخرى أن تتدخل في شؤوننا لو كانت أنظمة الحكم في بلداننا قريبة من الشعوب، فلو كان صدام حسين متحالفاً مع شعبه، لما استطاعت أي قوة أن تطيح به، وكنت قد وجهت رسالة مفتوحة في مقال، الى الرئيس بوتفليقة، قلت له فيها: إرجع إلى شعبك، ذلك أني لم استسغ سكوت الجزائر على الحرب ضد العراق في العام 2003، وكان الرئيس قد برر موقفه من الغزو الأميركي بأن السكوت quot;محتم عليناquot; بحجة إن أميركا دولة عظمى، قلت له حينذاك : لن يحترمنا الغرب ولا إسرائيل، مادمنا لا نحترم أنفسنا، إرجع إلى شعبك فإنه يوفر الحماية الحقيقية، أما القوى العظمى فهي لا تريد لبلداننا أن تتقدم، ولم تكن صدفة إن أولى المخططات كانت لتحطيم قدرات العراق، البلد الضارب بجذوره التاريخية، الذي يصنف بعض الخبراء احتياطيه من الثروة النفطية، بأنه الأول والأقوى في المنطقة العربية، أكثر حتى من السعوديةquot; .
في ختام هذا الحديث أود الإشارة إلى إن سيد أحمد غزالي هو الأكثر صراحة من بين المعارضين الجزائريين، ولذلك فقد تحمل العبء الأكبر من الإقصاء وتقلبات الأمزجة الحاكمة، وعلى الرغم من ذلك فهو قريب من مؤيديه، يتواصل معهم في نطاق الممكن من التحرك. وفي كتابه الذي أشرت إليه، يؤكد على إن من حق الناس أن يتعرفوا إلى شخصيات مسؤوليهم، من ناحية النشأة العائلية والتعليم، أي أن لا يبقى هذا الجانب مجهولاً كما يريد أغلب الحكام والمسؤولين في بلداننا، كي يضفوا على أنفسهم طابع الغموض والهيبة، ومن الغريب إن العهود الملكية لم تكن تعرف هذا النوع من التواري خلف هالة المنصب، فقد كانت أخبار العوائل الملكية، في كل من العراق والأردن ومصر، محل حديث المجلات والصحف، منذ النصف الأول من القرن الماضي.
يلخص غزالي مسيرة حياته، بكونه تمتع بطفولة محظوظة، فقد بدأ تعليمه منذ عامه الثالث بفضل والده المعلم، وتربى في أسرة ذات تقاليد ثقافية وروحية عريقة، مكنته من التعلم في المدرسة القرآنية، في سن مبكرة، وكان أحد أعمامه من أوائل مناضلي حركة العلماء الإصلاحية. وقد توزعت نشأته بين بلدة والدته تيغنيف في ولاية معسكر، وبلدة أبيه في ندرومة من ولاية تلمسان، والوالدة سليلة عائلة محيي الدين، والد الأمير عبد القادر. يقول عن ندرومة إنها بلدة بربرية مسلمة، افتتحت فيها أول مدرسة جزائرية خالصة من حيث معلميها وتلامذتها، في العام 1865، وكانت تضم اثنتي عشر زاوية دينية، بالإضافة إلى أن حركة العلماء، كانت قد تأسست فيها في العام 1945. تمكن بفضل مثابرته وتفوقه من أستكمال تعليمه بتميز، فكان الجزائري الوحيد الذي قبل في ثانوية ميشال مونتاني في مدينة بوردو الفرنسية، وبعد ذلك تخرج مهندسا مدنياً. كان الأكثر شباباً بين وزراء حكومة بن بلة في أول عهد الإستقلال ، وبعد انقلاب بومدين كان الوزير الوحيد الذي قدم استقالته، تقديراً للرجل الذي استوزره، وكرد فعل مبدأي لا يحمل أي معنى سلبي ضد القيادة الجديدة. وفي نوفمبر من العام 1965 تولى رئاسة شركة سوناتراك البترولية، ولم يغادرها إلا في فبراير- شباط من العام 1979. يصف غزالي مشواره الطويل في هذه الشركة، بأنها منحته سعادة حقيقية، بعد سعادته الأولى في المنزل.
التعليقات