الحلقة الاولى

في نهاية القسم الأول من هذا المقال، كنت قد نقلت رؤية رئيس الوزراء الجزائري الأسبق، سيد أحمد غزالي، لمعاني الإستقلال وذكراه التي عبرت الخمسين عاماً، ومما أضافه قوله بأن القيادة الجزائرية لم تعط الذاكرة الوطنية حقها من الصيانة، ولذلك نرى quot; الأغلبية الساحقة من الشباب لم تصل بعد إلى استيعاب المعنى التاريخي للإستقلال لأسباب سياسيةquot;، عن هذه الأسباب التي تكمن في طبيعة السلطة وكيفية تعاملها مع الشعب، وفهمها لدورها في إدارة العملية السياسية، في إطار مسارات إنتخابية إشكالية، أفاض محدّثي في شرح مواقفه عبر سنوات طويلة من توليه المسؤولية، التي مكنته من بلورة فكرة واضحة عن توجهات الحكم، وبالتالي تقييمه. وبما أن مواسم العامين 2011 و 2012، كانت قد أذنت برحيل حكام وأنظمة، وإن كثيراً من الجزائريين يخشون حرائق الرحيل، وإن كانوا يتوقون للتغيير
فقد سألت عن تصريح له لإحدى الصحف، وقوله بأن على النظام أن يرحل لأنه فشل في معالجة مشاكل البلاد، قلت له كيف يرحل؟ فأجاب:
quot; قبل أن أقول إن على النظام أن يرحل، قلت ينبغي لنا أن نضع خطة منطقية لمعالجة المشاكل، وذلك عبر تشخيصها، وكنت دعوت طيلة اثني عشر عاماً، الى التغيير الذي اعتبره ضرورة وليس خياراً، الخيار فقط في كيفية التغيير، قلت للمسؤولين إنكم تخطئون في اعتقادكم بأن المجتمع يمكن تسييره بالأوامر، وأنتم لا تقرّون له بأي دور سياسي، كما لاتبدون الإحترام اللازم للقوانين التي تسنّوها. بالإضافة إلى ذلك فقد نبهتكم إلى ظاهرة خطيرة تتمثل بإنكار المسؤولية عن أفعالكم، فهناك فصل مصطنع بين السلطة والمسؤولية، نتجت عنه قرارات خاطئة، قادت البلاد إلى الفوضى quot; وتساءل غزالي، ما العمل، كيف يتغير النظام؟
quot; لابد من خطة عمل تراعي أن يكون على رأس السلطة رئيس مقبول يحظى بالشرعية الشعبية، ما يمكنه من مباشرة إعادة بناء المؤسسات، التي بدورها تستطيع أن تلبي حاجات الناس. وكنت قد صرحت رسمياً لدى تقديمي برنامج حكومتي إلى المجلس الشعبي في العام 1991، بالقول: إن الحكومة التي أقودها معوّقة لأنها مثل الحكومات التي سبقتها، وكل مؤسسات التعاقد الإجتماعي، بما فيها مجلسكم الموقر، لم تنبع من إرادة الشعبquot;. ويضيف الوزير الأول الأسبق، موضحاً أسباب تردي الأوضاع في الجزائر، بعد رحيل الرئيس بومدين، فيقول: quot; لقد أهمل الحكم قضايا المواطنين واهتماماتهم الأساسية لصالح تكريس السلطة وتدعيم مصالحها، ما جعل البلاد تشهد أزمة إقتصادية، ما لبثت أن تحولت إلى أزمة اجتماعية، ثم أخلاقية، في هذا السياق جاءت قوة لتستغل الوضع المتأزم وتحاول القفز إالى سدّة الحكم، فكانت أولى بوادر العنف منذ بداية الثمانينيات. وما الإرهاب إلا نتيجة تراكمات، الحكومة مسؤولة عنها ، بمعنى إن جبهة الإنقاذ الإسلامية (الفيس) لم تكن أول من استعمل العنف، بل هي استثمرت أوضاعاً مأساوية.. quot;، وهذا يشير إلى إن السلطة قد هيأت مسببات العنف. هذه الأفكار سبق لسيد أحمد غزالي أن أوضحها أمام القضاء أثناء محاكمة عباسي مدني وشيوخ الإنقاذ، وكان قد دُعي للشهادة كرئيس للحكومة، بشأن حقيقة حواره الرسمي مع الشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج، الذي جرى ضمن حوار أشمل مع أحزاب أخرى، تمهيداً للإنتخابات التشريعية لعام 1991، ففي رده على سؤال الحاكم: هل (الفيس) هي المسؤولة الوحيدة عن الحالة التي نعيشها؟ قال: ليست وحدها، بل إنها (فتنة الكرسي)، بمعنى تضخم السلطة وإهمال قضايا الناس. ويفنّد غزالي ادعاءات الفيس عليه في المحكمة، بأنه كان قد وعدهم بإعادة عناصرهم التي سرحت من وظائفها، ولم يف بوعوده، فيقول: لم أعدهم بذلك، لأن الشركات التي استخدمتهم مستقلة، بل عاهدتهم بأن أبذل ما بوسعي لمعالجة قضاياهم، ولذلك وجهت رسائل إلى تلك الشركات، رجوتها أن تنصفهم، بخاصة من لم يشاركوا بأعمال عنف منهم. كما توجهت إلى شركة سوناتراك في حاسي مسعود (حقل نفطي) لهذا الغرض.
وبشأن العلاقة بين السلطة وجبهة الإنقاذ، قبل العام 1991، التي ربما تكون مجهولة في تفاصيلها للقارئات والقرّاء العرب، يعود غزالي إلى تصريحه المذكور أمام المجلس الشعبي، الذي اشار فيه الى معلومات وصلته عندما كان وزيراً للخارجية في حكومة سلفه رئيس الوزراء الأسبق مولود حمروش، وتخص العلاقة بين هذه الحكومة و(الفيس)، فيقول: quot; التناقض الظاهري الذي بدا بينهما، ما هو إلا ضباب لتغطية عملية تقاسم السلطة بين الطرفين. وكنت أشرت إلى مفاوضات سرّية دارت بينهما،ركزت على الآتي: سنعمل على ان لا يحصل اي طرف على الأغلبية، ثم ندعوا رئيس جبهة القوى الإشتراكية (الأفافاس)، حسين آية أحمد، ونعده بأن نعطيه حصة أربعين نائباً، بالإضافة إلى رئاسة المجلس الشعبي quot;. يضيف غزالي: quot; هذه المعلومات وصلتني من داخل وزارة الدفاع، واحتجاجاً على تلك السياسة الـتآمرية والغامضة، قدمت استقالتي في أواخر ماي ndash; مايس من العام 1990، غير إن استقالتي لم تقبل ورجاني الرئيس الشاذلي بن جديد أن أصبر، ريثما تنتهي القمة المغاربية التي عقدت في نهاية جويية - تموز، ثم صادف بعد ذلك احتلال الجيش العراقي للكويت، وتداعياته العربية والدولية، التي تطلبت مني جهداً للوساطة في إطار المساعي المتعددة لدرء احتمالات الحرب. وهكذا بقيت سنة أخرى في الوزارة quot;.
وفي سياق حديثه عن الإرهاب ومسبباته، يؤكد غزالي على خطأ الإعتقاد الشائع بأن توقيف المسار الإنتخابي في العام 1991، كان السبب الرئيس لاندلاع أعمال العنف، ويعتبر إن أطرافاً من النظام، هي التي سرّبت هذه الفكرة، لتغطي مسؤوليتها عن تدهور الأوضاع في البلاد. ويشير إلى مؤتمره الصحفي الذي عقده بعد انقضاء الدور الأول من الإقتراع، وفوز جبهة الإنقاذ بالأغلبية، والذي قال فيه: quot; لقد وعدتكم بانتخابات نزيهة، فهل وفيت؟ الحكومة لم تغشّ، ولكن (الفيس) غشّت، إلا إن هذا لا يعني إن النتيجة ليس لها معنى سياسي...quot; ويضيف في تحليله لهذه النتيجة quot; لقد كانت صرخة من طرف الشعب الجزائري ضد كل من تسبب في وضعه الحالي quot;.
مما تقدم، تتضح صورة ما حدث، أوضاع مأزومة، استغلتها جهة طامحة للسلطة، فكان الإرهاب منذ الثمانينيات، ثم مفاوضات ومؤامرات في مطلع التسعينيات بين طرفي الأزمة، فمن يا ترى بدأ بالعمليات الإرهابية، هل هم الإسلاميون؟ هذا كان سؤالي للأستاذ غزالي، وكان جوابه: نعم
قلت: لكن ما يشاع إن المخابرات قد اخترقتهم، وإنها كانت تقوم بأعمال إرهابية، فماذا تقول؟
أجاب: quot; هذا أمر آخر يندرج في مقولة (من يقتل من) التي شاعت في سنوات المواجهة، وهو موضوع يحتاج إلى وقفة طويلة، لكني سياسياً أعتبر جبهة الإنقاذ حزباً لديه أرضية وتاريخ، وهو ليس كحزب حماس وغيره من التابعين للنظام، على الرغم مما شابه من دخول عناصر مخابراتية في صفوفه quot;.
وعلى صلة بالحديث عن الإسلاميين، أشار غزالي إلى أهمية التمييز بين المصطلحات أو المفاهيم، نظراً للخلط الحاصل في معانيها أو في أسلوب تداولها، فالسلفية مثلا هي مفهوم عقائدي، يقوم وجوب اتّباع أسلافنا المسلمين الأوائل، وربما ينطبق ذلك على كثير من المسلمين بدرجة أو بأخرى، بهذا المعنى ليس كل سلفي إرهابي. أما الإرهاب فهو اختيار وخطة سياسية، ولا تقتصر ممارساته على المسلمين، فالصهاينة و بعض الأميركيين ، كان لهم مساهماتهم في هذا الشأن quot;. وتأكيداً لرأيه ، يضيف غزالي: quot; لدي علاقات بأشخاص يعتبرون أنفسهم سلفيين، وهم من رفضوا مخطط إدخال البلاد في دوّامة العنف. كذلك فأنا أرى إن كثيراً من عناصر حزب جبهة الإنقاذ، ليسوا بإرهابيين، وهناك من المؤسسين لهذا الحزب، من انشقوا عنه، اعتراضاً على برنامج النقاط الإثنتين والعشرين، الذي تبنته (الفيس) في ماي من العام 1990، والذي دعا إلى شنّ عمليات عنف وقتل ضد السلطة quot;. هذا بشكل عام، لكن الأمر
يختلف بالنسبة لبعض قادة الإنقاذ، فهم برأي غزالي: quot;من ملّة النظام الحاكم، يفكرون بالطريقة نفسهاquot;. ومادام الحديث عن القادة فقد سألته عن عن رأيه باستضافة قطر للشيخ عباسي مدني، وحملاته الإعلامية ضد الحكومة، وقد أجاب:
quot; بالنسبة لعباسي مدني هو موجود في قطر بطلب من الدولة الجزائرية، وقد ضمنت له مستوى معيشة كرئيس دولة، ومن الجدير بالذكر إنه كان قد عرض عليّ تولي رئاسة الدولة فيما لو وصل حزب الإنقاذ إلى الحكم، في محاولة منه لإغرائي بالتعاون معهquot;.
بعد الإسلاميين وإشكالية العلاقة معهم، أصل إلى الإنتخابات الأخيرة (10 مايس- ماي - 12)، وكانت إحدى الموضوعات التي توقف عندها الأستاذ غزالي، طويلاً، مسترجعاً مواقف من أعوام سابقة quot; كان بومدين يلّح، على أن يكون ثلث عدد النواب الممثلين لكل ولاية، من حزب جبهة التحرير الوطني، وأن يتم اختيارهم من بين المتميزين في صفوفه، ولأجل ذلك كانت تعقد اجتماعات وتجرى مسابقات لاختيار الأفضل من بين المترشحين عن الحزب، لقد اهتم النظام آنذاك بالمستوى الثقافي والسياسي للنواب، على الرغم من افتقاد الأسس الديمقراطية وسيادة الحزب الواحد، أما الآن فقد أصبحت عضوية المجلس الشعبي موضوعاً للمتاجرة. ومنذ عهد بوتفليقة، عشت تسع انتخابات، رئاسية وتشريعية ومحلية، كلها كانت محسومة من البداية، بخاصة الرئاسيةquot;.
وفي رده على سؤالي عن حصيلة الانتخابات الأخيرة، وعن دعوته لمقاطعتها، أكدّ على إن الحصيلة سلبية جداً، ونفى أن يكون قد دعى إلى مقاطعتها، قائلاً: quot; سألني صحافي جزائري: هل تدعو لمقاطعة الإنتخابات؟ قلت: لا ولكن من واجبي تنبيه الناس إلى عدم جدوى التصويت، فالنتائج محسومة سلفاً، ولن تسفر هذه الإنتخابات عن أي حلول لمشاكل الجزائريين والجزائريات، وستوظف السلطة أصوات المقترعين لمصلحتها. ويوضح غزالي بأن رأيه هذا لم يكن حكماً مسبقاً، لكنه مبني على معطيات وأدلّة
فقد جاءت هذه الإنتخابات في سياق ما سمي بالربيع العربي، فبعدما تعقدت الأمور في تونس وليبيا ومصر، تدارك الرئيس ووعد الشعب بأنه سيحمي الجزائر من تعقيدات الفوضى التي شهدتها بلدان عربية، وذلك بأن يغيّر الدستور، ويصدر قانوناً جديداً للأحزاب من أجل الإنفتاح السياسي، وإنه كذلك سيبادر إلى إصلاحات إقتصادية. وانطلاقاً من هذا الإعلان، دعا النظام إلى ماسمي بالإستشاراتquot;.
لا يقبل غزالي المنطق الذي تقوم عليه هذه الدعوة للإصلاح، فيرى إن النظام يكذب على الناس أو أنه يهرب إلى الأمام، يوضح ذلك بقوله: quot; عندما يقولون إننا لكي نحارب البطالة والفساد والفقر، ينبغي أن نغيّر الدستور، فهذا يعني إن الدستور هو المتسبب في تلك المشاكل، وهذا غير صحيح، كذلك قولهم بأن الإنفتاح السياسي يتطلب قانوناً جديداً للأحزاب، متجاهلين إن دستور العام 1989 كان قد ضمن التعددية السياسية وحرية التعبير والتجمع، وإن هناك قانوناً سابقاً للأحزاب، لم تحترمه السلطة quot;.
في الجزائر تجري انتخابات كل خمس سنوات، عن دورتها التشريعية في العام 1997 يحيلنا غزالي إلى شهادة أحد القادة التاريخيين للثورة، حسين آية أحمد، فينقل لنا تصريحه لصحيفة فرنسية، حين قال: quot;هذه انتخابات مزورة، وعندي الدليل، فرئيس الدولة عاهدني بأن يعطيني نسبة عشرين بالمئة من النواب، لكن رجال الأمن أنقصوها إلى تسعة بالمئةquot;، ولذلك فإن حزبه لم يشارك في تشريعيات 2002 و 2007.
لم ينته حديثي مع سيد أحمد غزالي عند هذه السطور، فلي عودة أخيرة في القسم الثالث من هذا المقال، الذي سيتضمن وجهة نظره في موضوع الأحزاب السياسية وتدخل الدولة في تشكيلها، أومنعها، ورؤيته عن طبيعة الحكم وعلاقته بالشعب.

[email protected]