يحدث أن تصيبنا الدهشة من تراث بعض الطغاة وأدبياتهم، التي تظهر بعد رحيلهم، من ذلك ما يستحق القراءة لجودة الأسلوب أو متانة العبارة، كالأشعار التي تنسب للخميني، في الغزل والخمريات والعشق الإلهي، التي توحي بأن قائلها غالب الرِقّة، تتصاغر أمامه عزائم السياسة وغلظة الحاكم الفرد، ليصبح تائها في ملكوت الله، باحثاً عن مفردات الجمال، فهو يقول في تجلّياته:
quot; أنا على ضفة الكوثر يا حبيبي ولكني عطشان
أنت بجانبي وأنا من بُعدك في حمّى ودوارquot;.
ومن قصيدة بحر العشق:
quot;قلبي المجنون أسطورة العالم
حول شمعة العشق احترقت فراشتي
زقاق الحانة البهي بيت صفاء العشق
صراخ الرعد نواح لاهب لقلبي
بحر العشق قطرة سكرى
حينما تآلف المشط مع زلف المعشوق
غدا كتفي مسجد القديسينquot;.
وفي مقطع من قصيدة نقطة عطف، يقول:
quot;كوني مُسبغة الهدوء وردية الصفاء كما سحاب الربيع في البستان
صيري تاريخ جماله واسمعي خبر العندليب*
إرفعي الكأس واقرأي على المتأثرين بالخمر والمعسرينquot;.
ومما يقال عن تداعيات خواطره قبيل وفاته، وفي صحوة من اعتلاله، إنه كتب في قصيدة العين المريضة:
quot;أسرني أيها الحبيب خال شفتيك
رأيت عينك المريضة فمرضت...
أفتحوا لي باب الحانة ليل نهار
فقد مللت المسجد والمدرسة
خلعت لباس الزهد والرياء وارتديت خرقة شيخ الخرائب وتيقظت
واعظ المدينة عذبني بنصائحه
فاستعنتُ بنَفَس المرشد المفعم شراباً
فلأذكر معبد الأصنام
فقد صحوت على يد دمية الخمّار (وردت هذه النصوص الشعرية في مقال محمود يعقوب - الحوار المتمدن، وذكرها استناداً الى quot;ديوان الإمام الخمينيquot; الذي صدرت ترجمته العربية، عن المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة، ومترجمه محمد علاء الدين منصور).
ولعلّ في هذه الأشعار- إن صحّت نسبتها اليه ndash; ما يؤشر الى عقل مرتحل عن صاحبه، أو متطلع الى جنّات الخيال الصوفي، بعيداً عن واقع الغرق في دروب فقه يسِدّ منافذ الروح. ولو قدّر للخميني أن يستغرق في بحار الأدب والعرفانيات، ونأى بمطامحه عن السياسة، لأراح الشعب الإيراني من تركة ثقيلة من المظالم والمآسي والوقوف على حافة البركان، لكنه الحكم وشروره التي طالت حتى رفاق الدرب والمقربين، من أمثال قطب زادة الذي اُعدم تحت طائلة مؤامرة مزعومة، وشريعتمداري، والحسن بني صدر، وغيرهم ممن حصدتهم رياح الخمينية العاتية.
حين عاد الخميني الى طهران، ليشهد انتصار الثورة، وقال quot;باسم الله قاصم الجبّارين، لم يدر بخلد االثوار الإيرانيين آنذاك، بأن هذا الرجل البادي التواضع، سيتّبع سيرة الجبابرة، ويؤسس لدولة الحكم الإلهي، مديراً ظهره لتضحياتهم التي هيأت له العودة المظفّرة. كانوا حسني النوايا، تحدوهم مشاعر التضامن والإعتزاز بنجاح الثورة، فهم مابين quot;فدائيي خلقquot; ومجاهدي خلقquot; وشيوعيين ومستقليّن، وليبراليين، ماكانوا ليركزوا على طروحات الخميني بشأن إدارة الدولة، بالقدر الذي أولوه لإمكاناته في تحريض الشارع والجماهير المقهورة، التي ضاقت بتوجهات الشاه الفوقية ونزعته المتعالية، الوثيقة الصلة بثقافة الغرب، التي لم يصاحبها جهد حقيقي لترقية وعي الطبقة الفقيرة وتحسين ظروف معيشتها. كان اليسار بطبيعته، سواء أكان ماركسياً أو إسلامياً، معادياً للغرب، متناغماً مع لهجة الخميني ضد الولايات المتحدة (الشيطان الأكبر)، أما التيار الليبرالي الذي حمل إرث القائد الوطني محمد مصدق فكان قادرا على شحذ همم المثقفين، لكنهم قلّة، قياساً الى جموع الفقراء الذين تهزّهم العاطفة الدينية ومقالات نصرة المستضعفين، التي برع بأدائها رجال الدين.
ثم إن الخميني تمتع بذكاء سياسي وقدرة على الوثوب في اللحظة المناسبة، فبعد تعيين الشاه لأحد قادة الجبهة الوطنية المعارضة، شاهبور بختيار، رئيساً للوزراء، في محاولة لتطويق الغضب الشعبي، وبعد اقتناعه بضرورة مغادرة طهران ولو الى حين، أدرك الخميني إن الوقت قد حان لقطف ثمار الثورة والعودة الى الوطن، قبل أن يفلت الزمام ويكون للثوار رأي في بناء البلد على أسس جديدة، بعيداً عن المنظومة الفكرية لرجال الدين، ووجد في نظرية ولاية الفقيه، خير مدخل لبدء مشروعه للدولة quot;الإسلاميةquot; ، وصولاً الى الإستئثار بالحكم، ونعلم من التاريخ إن هذه النظرية حديثة نسبياً، قياساً الى قِدَم الفقه الإسلامي الشيعي، وقد ابتدعت لدوافع سياسية لا صلة لها بالصحيح والثابت من الدين لدى الشيعة، ولا تحظى بالقبول لدى عموم فقهائهم.
وكان الكاتب محمد حسنين هيكل قد أصدر كتاباً في العام 1982عن دور الخميني في الثورة الإيرانية ، بعنوان quot;مدافع آية الله، وقد تصوره كما لو كان quot;رصاصة انطلقت من القرون الماضية، لتستقر في قلب القرن العشرينquot;، ولم يكن مخطئاً لأن هذا الرجل الذي منحه الثوار ثقتهم، ولم يعارضوا زعامته حين كانت الثورة في أوجها، صعد أدراج الحكم كنبّي مدجج بالسلاح، وقد محا من ذاكرته صفحة مشرقة من تآلف قوى الشعب، المتطلعة لبناء مجتمع تسوده العدالة، وأخذته نشوة النصر فوضع عمامته فوق هامة الثورة، ليتسنى له زرع المعّممين في كل مرافق الدولة، وليس للمعترضين سوى القيود أو الموت. وكان قد خاطب الجمهور الثائر، من منفاه، بأن quot;لا يهاجموا الجيش في صدره، بل يهاجمونه في قلبهquot;، أي يتوجهوا الى قلوب الجنود لتأليفها الى جانب الثورة، لكنه حين أمسك بالحكم، نسي قلبه وتغاضى عن جرائم أتباعه، ورصاصهم الموجه الى صدور المعارضين ممن حملوا رايات الثورة وفقدوا أعزاءهم في طريق انتصارها. وكان آية الله حسن علي منتظري قد صرح لمعارضين إيرانيين التقوه في بيته في مدينة قم، قائلاً: quot;انه من دواعي الأسف إن آية الله الخميني قطع وعوداً للشعب فقمنا بإبلاغها ونزل الناس إلى الشوارع متوهمين إن تلك الوعود ستطبق، فقاموا بالثورة، دافعين ثمنا باهضا لذلك، إلا إن تلك الوعود لم تتحققquot;(مقال لعادل حبة - الحوار المتمدن 24-04-2008). لقد بدت تلك الوعود بحجم الثورة الباهرة التي شدّت العالم اليها وكانت مرشحة كي تكون قبساً ومثالاً للثوار في كل مكان، لكن ما أن مضت أشهر قلائل على انتصارها حتى تداعت أركان الحرية المرتجاة، وصدرت قرارات بإيقاف أربع وخمسين صحيفة ومجلة، واحتدمت المواجهات بين جماهير من المثقفين والنساء والطلاب، وبين حراس الثورة وفدائيي الإمام وحزب الله، وبدا واضحاً إن السلطة سائرة الى أقصى درجات التشدد وإحكام القبضة على رقاب الناس، بخاصة عندما فرضت على جميع النساء تغطية رؤوسهن، وواجهت مظاهراتهن الرافضة، بكل قسوة.
وفي الذكرى الرابعة والثلاثين لثورة إيران، لايملك المرشد الأعلى وحاشيته من رجال دين ومنظّرّين أن يواصلوا أحاديث الأصالة الثورية، في الوقت الذي يعينون أقطاب النظام السوري على اضطهاد شعبهم وتمزيق وحدته الوطنية، والحقيقة إنهم إذ يحتفلون بالثورة في كل عام، فإنما يعيدون الى الأذهان ذكرى مصادرتها واغتيالها، هم يستفزّون ذوي ألوف الضحايا من الذين أعدمتهم المحاكم الثورية، ويذكّرون الناس برجال دين أتقياء متنورين، ساهموا في الثورة وقضوا كمداً وقهراً، كآية الله محمود طالقاني، أو أجبروا على ملازمة بيوتهم كآية الله منتظري الذي لم يسمح له بالخروج من داره إلا بعد عشر سنوات، لمجرد إنه كان ينتقد نهج السلطة.
إن ذكرى الحادي عشر من شباط ndash; فبراير- توقظ آمال الشعب الإيراني بتجديد ثورته وإعادتها الى مسارها المدني، الموصل الى العدالة الحقيقية، التي لا تفرق بين رجل وامرأة، ولا تنطوي على مضامين عنصرية في التعامل مع القوميات والمذاهب، وتنأى عن التناطح مع الولايات المتحدة الأميركية، وما تجلبه من حروب قاسية، كلّفت الإيرانيين أثماناً باهضة. إن نهج إثارة الأزمات كان أفضل وسيلة لدى المستبدين لتثبيت حكمهم، ففي الأشهر الأولى للثورة، وفي فترة رئاسة بازركان للوزارة الإيرانية، وجّه المتشددون في القيادة الإيرانية أتباعهم لاحتلال السفارة الأميركية في طهران، فكانت الشرارة الأولى لحرب طويلة بين العراق وإيران في العام 1980، أشعلها صدام نيابة عن الإدارة الأميركية، واستفاد منها الخميني وخليفته خامنئي في تكريس سلطة مجموعة من رجال الدين، وخنق قوى المعارضة كافة.
كثيرة هي آثام نظام الآيات في طهران، ومن أبشع ما يروى عنها، مراسيم إعدام العذارى من الفتيات، وتتضمن تزويجهن بالإكراه من سجانيهن، حتى لايذهبن الى الجنّة بعذريتهن- على ذمّة فتاوى السلطة - وبعد إزهاق أرواحهنّ، تمنح عوائلهنّ بعض النقود باعتبارها مهوراً لهنّ، ولعلّ هذا الطقس الهمجي غير بعيد عن قواعد السبي في حروب الدولة الأموية والعباسية، على سبيل المثال. وقد ورد في دراسة مستفيضة أعدّها حازم ناظم فاضل ، على موقع رابطة أدباء الشام، إن ولدي القائد موسى بن نصير، مروان وعبد الله، جلبا في حملتيهما على بعض أطراف المغرب، مائتي ألف رأس من السبايا، ولم يسمع في تاريخ المسلمين مثل هذا العدد، على حد تعبير الباحث، الذي استقى معلوماته من كتب عدد من المؤرخين القدامى، كابن خلكان، وابن الأثير، والذهبي، ورجع في هذه المعلومة الى كتاب quot; العرب في الأندلس، للكاتب عمر محمد علي الغماري، الصادر عن دار بومدين في الجزائر، 1972، ص 124 . كما تشهد مناطق كثيرة من عالمنا العربي والإسلامي، ممارسات أمراء القاعدة لطقوس الإغتصاب مع ضحاياهم من النساء المسلمات وغير المسلمات، اعتماداً على قاعدة الغنائم وتبريراتها الشرعية.
عشرة أعوام قضاها الخميني، يعيش بزهد، ويحكم كالأباطرة، ينوب عن الإمام الغائب، ويتنكر لنهج الأئمة في قيم الوفاء بالعهد، والصدق، والتماس الرحمة في التعامل مع الناس، وكان قد كتب في وصيته التي قرأها المرشد الحالي علي خامنئي، أمام البرلمان : quot; أسأل الله الرحمان الرحيم أن يقبل عذري في نقص الخدمة والقصور والتقصير، وآمل من الشعب أن يتقبل عذري في النقائص والقصور والتقصيراتquot; ( منال لطفي- ثلاثين عاما على ثورة إيران)، فهل يا ترى إن صاحب الوصية على كثرة دراساته الدينية، وعلمه الغزير، يجهل الآية الكريمة التي تقول بأن من قتل نفساً واحدة فكأنما قتل الناس أجمعين، أم ترى هو يعوّل على آية أخرى تفيد بأن الله يغفر الذنوب جميعاً، وتؤمل الناس بأن لا يقنطوا من رحمة الله، والعهدة في كل ذلك على المفسرين.
التعليقات