فى بلادى وما حولها سيناريوهان وحيدان معتمدان فى التعليق على نتائج استطلاعات الرأى أو التقارير التى تجريها أو تصدرها الجهات المتخصصة فى هذا المضمار،وهذان السيناريوهان لا يخرجان عن أحد أمرين، الأول فى حال ما اذا كانت هذه النتائج متوافقة مع ومؤيدة لسياسات النظم الحاكمة أو (اللوبى) المسيطر على الشارع، والثانى فى حال ما اذا كانت هذه النتائج تخالف ذلك وتتعارض مع سياسات وتوجهات هذه النظم.

فى الحالة الاولى يتم التهليل لهذه النتائج والاستشهاد بمصداقيتها ومصداقية الجهات التى نفذتها، أما فى الحالة الثانية فيبدأ التشكيك فى تلك النتائج والهجوم على منظميها واتهامهم بالعمالة والمؤامرة والكيد للنظام ومعاونيه وسياساته ومحاولة طمس انجازاته المتعددة، وما ينطبق على استطلاعات الرأى ينطبق على كل مايصدر عن أى جهة أو منظمة دولية أو إقليمية أو منظمة مجتمع مدنى..الخ، ويثير الضحك أن هذه النظم قد تمدح وتذم جهة واحدة خلال فترة وجيزة، لكن أحيانا يحدث سيناريو مخالف للحالتين السابقتين وهو سيناريو الصمت المطبق، حيث يصيب البَكَم جميع الافواه ويصيب الصمم جميع الآذان. وما نحن بصدد الحديث عنه هو التقرير الأخير الصادر عن أحد الجهات المتخصصة فى هذا المجال ونشر مؤخرا، والتقرير يضع مصر فى ذيل قائمة من مائة وخمس وخمسين دولة مرتبين من الأسعد فالأقل سعادة ثم التعيس فالأتعس، وفى المؤخرة يقبع من هم أكثر تعاسة، وبالطبع وكعادتها فى مثل هذه الفعاليات تتربع على عرش القائمة دول اسكندينافيا الاربع، يليهم دول مثل هولندا واسرائيل بينما يجاورنا فى ذيل القائمة (الاشقاء) فى موريتانيا وبنجلاديش والصومال وتشاد واليمن وبقية القائمة التى لا أظن أنها تحتاج أى قدر من الذكاء لاستكمالها، ورغم أننى شخصيا أحيانا أتحفظ على نتائج بعض هذه التقارير لأسباب كثيرة ليس هذا مجال سردها، لكن المثير للشجن فى نتائج هذا الاستطلاع أنها تتوافق بشدة مع الظواهر البادية بوضوح على الساحة فى الشارع المصرى، فالناس تغيروا تغييرا عميقا طال حتى قسمات وجوههم، حيث اختفت البسمة من على الوجوه، وشعور الرضا الذى كان مطبوعا عليها استبدل بتجهمات غريبة هى خليط من الغضب والسخط والحزن والبؤس والاحباط والحقد والتنمر، وأؤكد من تجربتى فى الحياه أن الفقر لادخل له على الاطلاق فى هذه الحالة حيث أزعم أننى رأيت الفقر الحقيقى للمصريين،الفقر المدقع فى الستينات، الفقر الذى لم تختلط به التعاسة ولم يتحول أبدا إلى بؤس، ورأيت معه شعور رضا غريب فى النفوس إنطبع على الوجوه سماحة وابتسام وانطبع على القلوب سلام ومودة، نعم كانت هناك جرائم فردية حيث يمكن أن تهوى النفس البشرية فى لحظة إلى الهاوية، لكن بهذه البشاعة الموجودة على الساحة الآن أبدا لم تكن، فلم تكن هناك جرائم الحصد الجماعى لأرواح البشر تحت مسميات الثأر أو الانتقام أو الطائفية، ولم يكن هناك جرائم التحرش أو إغتصاب النساء رغم أنهن لم يكنّ محجبات أو منتقبات، ناهيك عن اغتصاب الاطفال وزنا المحارم، ولم يكن هناك جرائم الاستئساد وقهر الضعفاء، وقائمة مفزعة من نوعيات مقززة من الجرائم البشعة. والمشكلة فى استطلاع التعساء هذا ليست فى مضمونه المأساوى بل فى صدامه مع نتيجة استطلاع سابق عليه بفترة وجيزة عن نفس الجهة يقول بأن المصريين يتبوءوا عرش نفس هذه القائمة لكن تلك المره كانت ليس باعتبارهم أكثر سعادة ولكن باعتبارهم أكثر (تدينا )، وهذه الكلمة بين القوسين على قلة حروفها حولت حال المصريين (كل المصريين) من حال الى حال فى كل مناحى الحياه، اجتماع واقتصاد وسياسة وثقافة ومن ثم يجيئ استطلاع التعاسة ضاربا استطلاع التدين فى مقتل، ويتركنا أمام خيارين لاثالث لهما، إما أن ننجر إلى خطأ التعميم ونربط ربطا ساذجا بين التدين والتعاسة، أو نعود إلى نظرية المؤمرة ونكيل السباب لهذه الجهات التى تجرى مثل هذه الاستطلاعات، لكن يقابلنا اشكالية التناقض الصارخ فى السلوك حيث سبق وهللنا لها، لكن ربما يكون هناك طريق ثالث لفض هذا الصدام الذى لاشك له آثاره على البسطاء المحبطين المتسائلين: أليس من المنطقى أن يكون المتدين أكثر سعادة؟ أو على الأقل سعيد؟

أما أن يكون الأتعس فهناك خطأ ما علينا أن نبحث عنه، وإذا وجدناه علينا أن نعترف بوقوعه ثم نبحث أين ومتى وكيف وقع. وبالرجوع للواقع المعاش لا شك أن (مظاهر) التدين أغرقت الشارع المصرى بدءا من أسماء استدعيناها من القرون الوسطى وحتى أزياء استدعيناها من عوالم لازالت تعيش فى نفس الحقبة مرورا بدور العبادة والفضائيات واللحى ومكبرات الصوت التى اجتاحت فى طريقها كل فرصة للتفكير فى أى أمور أخرى، وبالتالى أصبحت كل القضايا هامشية تحتمل التأجيل وربما الإلغاء، بما فيها قضايا مصير حياة الانسان فى المأكل والمشرب، ناهيك عن أمور الكماليات والرفاهية (فقد سخر الله لهذه الامور آخرون لتدبيرها) واستراحت الضمائر إلا قليلا وذلك حتى يتم تديين هيكل الدولة الخارجى وتكتمل الصورة التى يسعى الجميع فى اتجاهها. يتبقى لنا الشق المتعلق بالتعاسة، وهذا التناسب العكسى المثير للتساؤلات: لماذا يشعر هذا الإنسان (المتدين) بكل هذا القدر من التعاسة؟ولماذا ثلاثة أرباع الكون أسعد منه؟ بما فيها أمم لازالت تعبد الأوثان أو لاتعبد شيئا بالمرة، وأسئلة كثيرة ستتكاثر بالانقسام ولا نملك بل ولا نجرؤ على الاجابة علي كثير منها، عدا سؤالين الاول هو: هل المصريين أكثر شعوب العالم تدينا؟

الإجابة نعم تقول ذلك كل الظواهر والسؤال الثانى: هل المصريين أكثر شعوب العالم تعاسة؟ الإجابة نعم نعم تقول ذلك كل الظواهر ويتبقى السؤال المر السؤال الذى لا يستطيع أحد أن يقترب من اجابته فاذا كان السؤال مرا فاجابته علقم والسؤال هو : هل يمكن أن يكون الإنسان أكثر تدينا وفى نفس الوقت أكثر تعاسة؟ وفى هذه الحالة سيبرز بالضرورة سؤال اكثر مرارة عن ماهية ونوع الكائن البشرى نتاج هذا المزيج؟