بسبب طبيعة الموقع الذي شغله الصديق ياسين الحاج صالح في الثورة السورية، اختلفت طبيعة الهجوم الذي تعرّض له من إعلام النظام ومرتزقته.
فالحاج صالح ليس منشقاً عن النظام كي يُتهم بالفساد، وليس من معارضة الفنادق كي يُتهم بالعمالة، وليس من معارضة ما بعد الثورة كي يُتهم بالانتهازية، ولم يغادر سوريا بعد اندلاع الثورة كي يُتهم بالجبن، ولم يحتل شاشات الفضائيات كي يُتهم بحبّ الأضواء، ناهيك عن أنه علماني حقيقي لا يمكن اتهامه بالـquot;عرعوريةquot;؛ الصفة التي ألصقها النظام السوري بجميع خصومه.
ياسين الحاج صالح على العكس من الصورة التي يتمناها له كل أعداء الثورة كي ينالوا منه: هو سجين سياسي لسنوات طويلة، وشبه فقير على الصعيد المادي حيث لا يملك بيتاً ولا حتى سيارة، وكاتب رأي رصين بعيد عن الشعبوية، ومثقف عضوي لامسَ تخوم البطولة في بقائه داخل سوريا التي رصد نظامها مبلغاً مالياً لمن يدلّ إلى مكانه... وباختصار هو تمثيل حيّ لوجه الثورة البهيّ والمشرِّف.
طبيعة هذا الموقع الذي شغله ياسين أربكت شبيحة النظام من المثقفين الذين شعروا بأن التصدّي له هو أحد مهماتهم، حيث لا يمكن إيكال هذه المهمة لأشخاص سطحيين مثل شريف شحادة وطالب إبراهيم. لذلك تبرّع منذ اليوم الأول مثقفون أعمتهم طائفيتهم لمحاولة النيل منه فكرياً (ثائر ديب)، ثم ما لبثوا أن اكتشفوا عقم ذلك فراحوا يحاولون تصويره كممثّل للعنف فسمّوا المقاومة المسلحة باسم quot;عصابات ياسين الحاج صالحquot; (أُبي حسن)، وحاولوا تقديمه كممثل عن الجناح المتشدّد في المعارضة (إبراهيم الأمين)، وحين اكتشفوا تهافت مثل هذه الاتهامات لم يبقَ أمامهم سوى تلويث سمعته بأن يجعلوه quot;عميلاًquot; فيُحدِّدوا مكان إقامته في quot;منزل السفير الفرنسي بدمشقquot;!!
نوعية هذه الاتهامات الركيكة تُثبت المأزق الذي وقع فيه أعداء الثورة السورية مع نموذج الحاج صالح. فقد كانت مهمة هؤلاء سهلة مع مثقفين آخرين: بسمة قضماني بعد فيديو مقابلتها الشهيرة، وعبد الرزاق عيد بعد انحداره إلى خطاب طائفي تحريضي، وبرهان غليون بعدما باتَ أسيرَ تناقضات الممارسة السياسية...
لكنهم اليوم وقعوا على ما اعتبروه quot;سقطةquot; فكرية ذات دلالة quot;إرهابيةquot; وquot;بعثيةquot; لهذا المثقف، وتحديداً قوله في مقال له حمل عنوان quot;في خصوص الثورة السورية والأخلاقquot; (الحياة، 19 آب 2012): quot;إن من لا يُدين النظام ويطالب بإسقاطه فوراً فاقد الأهلية الأخلاقية لنقد الثورة أو التحفظ على أشد أفعالها سوءاًquot;. (استغل عبد الأمير الركابي هذه الجملة ليقول: quot;لم أفهم حتى الآن ما هي الثورة السوريةquot;!! جريدة quot;الحياةquot;، 17 أيلول 2012).
والحقيقة أن أفضل دفاع عن هذه الجملة الأخلاقية جداً هو تبسيطها، وتمثيلها بمثال جريمة جنائية، كالآتي:
اعتدى رجل على امرأة واغتصبها، فحملت عليه هذه المرأة سكين المطبخ وطعنته.
فإذا أخذنا مقولة الحاج صالح السابقة وطبّقناها على هذا المثال فستكون النتيجة كالآتي: لا يحق لك إدانة حمل المرأة للسكين قبل إدانة اغتصاب الرجل لها.
أين الخطأ في ذلك؟ وأين الإرهاب والبعثية؟
ما فعله عبد الأمير الركابي وسواه من منتقدي هذه المقولة للحاج صالح، أنهم تركوا مقدّمة اغتصاب المرأة وراحوا يحاكمون النتيجة: حمل السكين! وهذا لعَمْري من أغرب وأوقح ما يمكن أن يمرّ علينا كسوريين لم يبقَ لنا بيت لم تندب فيه ثكلى وينهار فيه أبٌ أمام جثة ابن مقتول على يد نظام بشار الأسد.
اليوم، ياسين الحاج صالح دليلٌ ضدِّيٌّ لكل نظريات النظام عن الثورة، لذلك تحوّل إلى رمز، ولذلك ازدادت حدّة الهجمات عليه. وقد ظنّ صبية النظام بأنهم يستطيعون تحطيمه بالمطارق، كما فعل شباب الثورة مع تماثيل الأسد الأب، لكنهم خابوا لأن ياسين ليس تمثالاً معروضاً في الساحات العامة، بل فكر حي ومُشمس في عقول الثوار الأنقياء.