اليوم ذكرى وفاة الراحل القائد الخالد جمال عبد الناصر، وليس بمقدوري أن أضيف شيئاً لما قاله التاريخ بحق زعيم العرب الراحل، ولكنني سأرد على أولئك الذين يحاول البعض منهم النيل من مرحلة النضال العظيمة التي عاشها القائد الخالد، حيث كتب البعض محاولاً التقليل من أهمية الدور السياسي والثوري الكبير الذي لعبه جمال عبد الناصر على الصعيدين العربي والعالمي، حين كتبوا مقالات متعددة في أماكن متعددة.

وقبل أن أستعرض أهم النقاط التي ارتكز عليها الكُتاب في مقالاتهم، أود أن اذكرهم بحادثة واحدة فقط، وقعت قبيل وفاة جمال عبد الناصر بأيام، حينما نشبت المواجهات الدموية التي عرفت باسم حرب ايلول في الاردن، حيث عقد عبد الناصر العزم على ايقاف حمامات الدم بين الاشقاء، فدعا الزعماء العرب للاجتماع في القاهرة، وفي غضون ساعات قليلة استجابوا جميعا لدعوته، والتفوا حوله، وتم التوصل لايقاف تلك المجزرة!!.. فأين نحن مما يجري هذه الايام السوداء في سوريا وغيرها؟!!

فهذا البعض الذي ينعت عبد الناصر بالبكباشي، محاولين النيل من مكانته، كان زعيماً بكل المقاييس والمواصفات التي تقتضيها الزعامة الحقة!!.. وانضمام الكُتّاب المحدَثين ممن لم يعاصروا حقبة عبد الناصر الى جوقة من يرددون الطعن في تجربة عبد الناصر - دون تمحيص وتدقيق - فيأتون بضجر ممل على ذكر تلك الخسائر والهزائم التي منيت بها التجربة الناصرية، ولم يحاولوا البحث في الظروف الموضوعية التي أدت الى ما يسمونه خسائر أو هزائم، هذا الانضمام ليس بغريب في تقلبات مقاييس هذا الزمن!!.. بيد أن فرنسا شديدة الاعتزاز ببطلها نابليون - مع أنه كبدها خسائر فادحة - والهند ستبقى معتزة بغانديها، وامريكا بواشنطونها، والكثير من الشعوب والأمم نجدها شديدة الفخر بأولئك الزعماء الذين لم يتركوا آثاراً بحجم ما ترك عبد الناصر في أمته العربية!!..

واعتبر الكثير من الكُتّاب أن ناصر قد تسلل الى حياتنا خلسة، وحيثما يضع قدمه تنعق الغربان!!.. وتندلع الحرائق!!.. كما أنهم يجردوه من كل موهبة، كما كتب كاتب كويتي اسمه الساير، وتساءل: كيف لمن لا يملك موهبة لافتة أن يكون حاكماً على مصر؟!.. ويقارن بين عبد الناصر، ويوسف وهبي، والسادات، فينتصر للسادات على حساب عبد الناصر، مبرراً ذلك بأن السادات يمتلك كريزما تظهر بتميز نبرة صوته، ولجلجته بالكلام، وحركاته باليد واللغة والجسد!!.. ويرى الساير أن ذلك دليل على أن السادات شخصية استثنائية، وصفاته التي أشار اليها تدل على مصريته..!!

ويشير الى أن عبد الناصر لم يكن قادراً على مواجهة أجهزة الاعلام، اذ ليست له لقاءات مباشرة مع الصحافة المقروءة، والمسموعة، والمرئية!!

ويخلص الكويتي الى القول : أن نجاح عبد الناصر كان بسبب (الغفلة) العربية المعروفة، وأن ثورة يوليو عبارة عن فانتازيا سياسية أشبه ما تكون بروايات الف ليلة وليلة.. وأقرب الى الخيال منها الى الحقيقة!!.. ويضيف: أما التي أغرب منها وأعجب، فهي الشعوب العربية التي شاركت طواعية بماراثون الجري وراء السراب، ولا تزال تجري وتجري..!!

و لساير، لا يكتب بغرض تجريح عبد الناصر - كما يزعم - إنما يكتب للأجيال الناشئة التي تؤمن بالناصرية، وهو يعتبر أن ذلك أمر جلل لا ينطوي على خير لهذه الشعوب، لأن الناصرية أقرب ما تكون الى الخيوط المغزولة من دخان..!!

هكذا وبكل بساطة يأتي أُنموذج لهذا النوع من الكُتّاب من مسطولي الفكر يظنون أنهم ينسفون تجربة نضالية غيرت في المفاهيم السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية في منطقة الشرق الاوسط، وكانت موضع بحث واهتمام كبيرين في العالم بأسره لسنوات، وصفت بأنها من أكثر السنوات السياسية سخونة في العالم العربي، والآسيوي، والافريقي..!!.. ينسفها بعض أشباه الصحفيين والمتطفلين على الكتابة!!

ولا أجد كبير عناء في الرد على ما أورده هذا البعض ممن لم يعيشوا التجربة الناصرية كما عشتها، فهم على ما يبدو ينظرون الى الأمور من زاوية واحدة، لدرجة أنهم تعمدوا أن يجردوا عبد الناصر من كل عمل ايجابي!!.. فلم يذكروا أياً من انجازاته في الاصلاح الزراعي، وجلاء الانجليز، وتأميم قناة السويس، والتأمينات الاجتماعية، وازالة الفوارق الطبقية، وبناء السد العالي، والاهتمام بانشاء المصانع، ناهيك عن ذلك النهوض العربي في تطلعه للانعتاق من الاستعمار والتخلف، واسهاماته الفعالة في تأسيس دول عدم الانحياز، والدور الكبير الذي لعبه للاسهام مع الحركات الثورية في آسيا، وافريقيا.. كما لم يشيروا الى التحديات والمواجهات الخارجية والداخلية التي تعرضت لها تجربة عبد الناصر..!!

فعبد الناصر أصاب وأخطأ، لكن الايجابي في تجربته يفوق السلبي.. فلو ألقى هذا البعض من أشباه الكُتّاب والمتطفلين على الكتابة السياسية نظرة على خريطة المنطقة السياسية والاجتماعية، والاقتصادية، وموازين القوى فيها قبل عبد الناصر وبعده، لأدركوا الحقيقة، فحجم تجربة ناصر لا يمكن أن تقاس الا بأهدافها، و بظروفها!!.. ومع هذا فتجربة عبد الناصر ليست فوق النقد، بالعكس فنقدها مطلوب، ولكن ليس بالأسلوب الذي رأيناه فيما يكتبه البعض عنه..!!

فمن الظلم والعسف أن نصنف تجربة الجماهير التي منحت عبد الناصر من الحب ما لم تمنحه لقائد من قبله، كما يصنفها البعض بـ (الغفلة)!! فالجماهير العربية لم تكن عمياء ولا فاقدة لوعيها، واذا كان بعض هؤلاء الكُتّاب يحذرون الناشئة من الناصرية، فتحذيرهم هذا لن يلغي تاريخ جمال عبد الناصر الذي يعتبر ملكاً لاجيال قادمة ستتاح لها الحقائق كلها!!

ان الشتائم والسخرية من تجربة عبد الناصر، تنطوي على امتهان كبير لمشاعر قطاعات واسعة من أبناء الوطن العربي، وبعضهم قد لا يتفق مع عبد الناصر كعبد الرحمن العتيقي، الذي كان وزيراً لمالية الكويت، حيث كان يتألم عندما يقرأ محاولات النيل من سمعة عبد الناصر بعد وفاته، وعبّر عن رأيه في ذلك صراحة لوفد مصري زار الكويت حينما قال لهم:

laquo;إن آرائي كانت بعيدة عن آراء جمال عبد الناصر، لكن دعونا نكون صرحاء، ان التجربة الديموقراطية في الكويت ما كانت لتحدث لولا تأثير جمال عبد الناصر..!! فاتقوا الله فيه وفينا!!raquo;.
وهكذا امتدت تجربة عبد الناصر لتشمل الحراك الشعبي كله.

ولكي لا يظن القراء أن كاتب هذه السطور يبارك كل ما جاءت به التجربة الناصرية.. فأنا أبدي تحفظاتي على استفحال دور دولة المخابرات في عهد عبد الناصر، وإن كان البعض منها له ما يبرره.. كذلك لا أرى أن تطبيق الديموقراطية من خلال الاتحاد الاشتراكي أو تنظيم قوى الشعب العاملة هو الاسلوب الأمثل لشيوع ظاهرة الديموقراطية في الوطن العربي!!.. ورغم الثقة التي أولاها عبد الناصر للعسكر، فلا أظن أن هذه الفئة من الناس مهيأة لادارة زمام الأمور المدنية، فدورهم أهم من ذلك بكثير في ثكناتهم والتخطيط لحماية أوطانهم..
كذلك أنا لا ألغي التجربة الناصرية، واعتبر أن كل ما هو سلبي كان سائدا قبل (15) مايو (1971)، وكل ما هو ايجابي ومعجز، تحقق بعد (15) مايو، الذي أورث مصر حكم مبارك ونتائجه المخزية!!

أما عن امكانيات عبد الناصر الثقافية والفكرية، وعن نشاطه في تحريك الاتجاهات السياسية في العالم المحيط به، فهي ليست بحاجة الى شهادة من أحد!!.. شريطة أن يُنظر اليها من زاوية تحليلية، بما يتفق وظروفها الموضوعية، بعيداً عن الشتائم والتهريج.. كذلك عبد الناصر ليس في حاجة لتبرئة ساحته كانسان شريف ملأت حياته بالنضال طيلة سنيها طولاً، وعرضاً، الى أن اختتمها بأشرف نهاية.

وقد عبر أحد رؤساء بريطانيا عندما علم بخبر وفاة عبد الناصر بقوله:
quot; مات العدو الشريف quot;..

وعلى حد علمي أن أشباه الكُتّاب لهم الكثير من المحاولات الكتابية، التي تنحو منحىً عدائياً ضد عبد الناصر، كما يفعل ( غابريال وغيره في إيلاف )!!..

وعلى سبيل المثال فإن الكاتب الكويتي الذي إتخذ من صحيفة الشرق الأوسط منبراً ينفث فيه سُمّه ضد عبد الناصر والناصرية وضد جماهير عبد الناصر، كتب ما أعجبني في سطوره الأولى حيث قال وهو يتحدث عن تأثير عبد الناصر: laquo;من أي عتمة في الوعي أبحرت سفائنه؟!! وتحت لثام أي ليل رسا في مراسينا،؟! ومن أي غبشة في الفكر تسلل، خلسة حتى بات بين أضلاعنا في الصدور؟! وكيف حلَّ بيننا كأنه القدر؟!raquo;.

لو بحث الكاتب الكويتي بعقل المحب، لوجد الاجابات على تساؤلاته مجذرة في وجدان كل من كانوا يتعطشون الى الوحدة العربية، والكرامة العربية، التي كان من أهداف عبد الناصر أن يجسدها.. ولكن من أين لنا أن ننظر الى الأمور من زاوية المحبة، وكل منا بات (يحمل بالداخل ضده...!!). ولو أن هذا الكاتب وغيره يُقيّمون البقية الباقية من النضال العربي المتمثل بالمقاومة لأدركوا أنه عقب هزيمة 67 عمّت حياتنا ثقافة الهزيمة، وتكرس كفر الناس بالمنطلقات القومية والثورية وما إلى ذلك من الأيديولوجيات السياسية، وصار اللجوء إلى الثقافة الثيوقراطية ملاذاً يستظل به المهزومون.
ولا أغالي عندما أقول: أننا حتى هذه الساعة لازال البعض يجلله جلباب ثقافة الهزيمة؟!!.
bull;قبل أن أتجاوز هذه النقطة لابد من الإشارة إلى أن أولئك البراغماتيون والمتلبرليون، وأدعياء العلمانية وديدان الحداثة و(المتملحدون) ما فتئوا يمطروننا بتحليلاتهم عبر الصحف، والمجلات، والمواقع الإلكترونية متغنين بانتصارات الأعداء، وشامتين بالهزائم التي لحقت بالمقاومة القومية - على حد زعمهم - هؤلاء لا يفوتهم بالطبع الإتيان على ذكر القائد الخالد جمال عبد الناصر، ليربطوا بين هزيمة 67 وبين هزيمة المقاومة في تصوراتهم، لأنهم لايريدون الاعتراف بانتصاراتها وصمودها الواضح للعيان في لبنان وفي غزة وغيرهما؟!!..
bull;فما أروعك يا عبد الناصر.. حتى وأنت في قبرك - منذ أربعة عقود - لم تزل ترعبهم؟!!.. بينما هناك حكامٌ - محكومون من البيت الأبيض - لا تذكرهم الشعوب إلا بكل نعتٍ أسود؟!!..
* * *
bull;أيها الثائر الراحل..
إن الذين اغتالوا الخزندار والنقراشي، وحاولوا اغتيالك في المنشية بالاسكندرية، هم الذين يحكمون مصر الآن.. وأفكارهم تحكم مناطق متعددة من الوطن العربي الذي كانت شعوبه تطالب بالوحدة، فأصبحوا الآن تحت قبضة وهيمنة الغيبيات والخزعبلات والشعوذة..
هذا جانب.. والجانب الآخر إن المتلبريين وذوي الاتجاهات العلمانية لم تعد لديهم بضاعة سوى أن ينسبوا إليك هزائمهم في حياتهم العملية والأيديولوجية، فنسبوا أنك كنت مصدراً من مصادر وجود الديكتاتوريات المتمثلة بالأسد، وصدام، والقذافي، وأشباههم من ظُلام الشعوب.. هؤلاء ينسبونهم إليك لكي يبرروا بذلك عدم قدرتهم على مواجهة الواقع السياسي الذي يهيمن عليهم لأنهم جبناء ومرتزقة، بينما كانوا بالأمس يباركون خطواتك، نجدهم اليوم يباركون خطوات من إغتالوك واغتالوا فكرة القومية العربية!!..