في مقالتي السابقة (quot;تمثالquot; ياسين الحاج صالح ومعاول النظام السوري) أوردتُ جملةً مجحفة بحقِّ الدكتور عبد الرزاق عيد، هي ابنة انطباع سابق تمَّ تعميمه، ولم تسمح كثافة جريان الأحداث بإعادة محاكمة هذا الانطباع أو تقويمه.
وفحوى الانطباع أن الدكتور عبد الرزاق عيد تورّط في سجال طائفي لا يليق بمفكّر مثله.
وبعيداً عن الجهة التي ساهمت في ترسيخ هذا الانطباع في أوساط المعارضة تجاه الدكتور عيد، وهي جهة معارِضة نكنّ لها كل الاحترام، فإنني أودّ استغلال الفرصة لإعادة النظر في هذه المقولة، لسببين: الأول أخلاقي يتعلّق بإنصاف الدكتور عيد، والثاني سياسي يتعلّق بالتطوّرات الحاصلة في سوريا جرّاء الثورة الشعبية التي كسرت الكثير من المحرّمات الذهنية، ومنها المسألة الطائفية.
حين راح الدكتور عيد يطرح المسألة الطائفية في النظام، بتسمياتها المباشرة، كانت الثورة السورية آنذاك ما زالت تعيش مرحلتها الرومنسية - إذا جاز القول - حيث السلميّة شعاراً وحيداً، والتظاهر آليةً وحيدةً، وأيّ حديث عن السلاح هو تشويش (نتذكر الضجّة التي أثارها تصريح هيثم مناع عن تلقيه عرضاً بالتسليح)، وأيّ تسمية لطائفة بعينها هو فعل طائفي مرفوض.
لكن الثورة السورية أُخرجت من تلك المرحلة بقوّة المجازر التي بات من باب الخداع للنفس عدم الاعتراف بأنها ذات طابع طائفي محض. لقد شاهدنا - إضافة إلى أشلاء الضحايا المنتمين إلى طائفة واحدة - جنوداً يتسلّون بقصف البيوت بالدبابات وهم يضحكون، ورجالاً غير سوريين مدفوعين بغريزة الحقد المذهبي يتطوّعون للقتال على الأرض السورية ضدّ الثورة السورية، وقادة إيرانيين لا يجدون حرجاً في القول إن أسوار دمشق من أسوار طهران...
وبالطبع، وعلى الرغم من ذلك كله، لا يمكننا إنكار وجود انقسام أكثري سنّي حول الثورة، لكنه ذو طبيعة فكرية تتعلّق بالخوف من الحرب الأهلية والخوف على مدنيّة الدولة، على العكس من طبيعة الاصطفاف العلوي الذي يستند إلى قوة الغريزة.
وأمام الانقسام السنّي بين الثورة وضدّها، والاصطفاف العلوي شبه التام ضدّها حتى وهي في مرحلتها السلمية الرومنسية (مع استثناءات فردية شجاعة لا تملك قدرة دحض هذا الاصطفاف)... يمكن للمرء أن يدرك الخطيئة الكبرى التي ارتكباها مهندسا الانقلاب الطائفي في سوريا (صلاح جديد وحافظ الأسد) حين استغلا تشجيع الأكثرية (أكرم الحوراني) لأبناء جلدتهما الانخراط في الجيش والدولة ليقوما بأسوأ وأخطر انقلاب بين انقلابات سوريا الكثيرة.
فالحقيقة إن ما أسميناه quot;انقساماً سنياًquot; لهوَ دليل على أن الأكثرية الطائفية في سوريا لم تكن تنظر إلى نفسها ذات يوم على أنها جهة طائفية واحدة في مواجهة جهات طائفية أخرى. بل إنها اليوم ورغم كل هذه المجازر لم تأخذ قرارها النهائي بالتعامل ككتلة واحدة. وهذا ما يُفسّر لنا المكانة المرموقة التي شغلها أبناء الأقليات في أجهزة الدولة بين فترتَي الجلاء وانقلاب 8 آذار 1963 (على سبيل المثال نجد العديد من الضباط الدروز أيام quot;حكم السنّةquot; شغلوا منصب وزير دفاع، في حين أنهم في عهد حافظ الأسد هُمِّشوا بطريقة ثأرية).
إن ثقة الأكثرية بنفسها، وبالتالي عدم تعاملها مع ذاتها ككتلة طائفية واحدة، بل كجماعات وتيارات سياسية، هو سبب quot;الرخاءquot; السياسي الذي عاشته الأقليات.
وهذا الدرس كان أول من استوعبه وعمل به سلطان الأطرش، حيث رفض تقلّد أي منصب سياسي بعد تحرير سوريا، رغم أنه مَن قاد ثورة طرد الاستعمار. وقال قولته الشهيرة للذين أتوا يعرضون عليه تقلّد المنصب الذي يريد: quot;نحن حرَّرنا وأنتم احكمواquot;. فما فعله الأطرش ليس وليد زهد وترفُّع، بقدر ما هو فهم لطبيعة سوريا الفريدة، وهو ما كرّره في سنوات الستينيات أثناء توبيخه للرائد الطائش سليم حاطوم الذي راوده حلم أن يحكم سوريا.
اليوم، وبعد وقوع طائفة كاملة في شرك عدم الاكتراث لهذا الدرس، وانخراط أبنائها في عمليات قتل طائفية مخزية، علينا الاعتراف بهذا الواقع المخيف، والانطلاق بقراءات جديدة، وبالتالي إعادة قراءة ما كتبه الدكتور عبد الرزاق عيد ومناقشته خارج إطار الاتهام والانطباع المسبق، فالمفردات التي استعملها قبل أشهر في طروحاته، وكانت مستهجنة، بتنا نستعملها اليوم بشكل طبيعي ودونما استهجان.
لقد كتبتُ في العام الفائت مقالاً بعنوان quot;عن شيطنة العلويينquot; (جريدة quot;النهارquot;، 31/ 12/ 2011) نبَّهتُ فيه السوريين من مغبّة شيطنة العلويين. لكنني اليوم - وبكل أسف - لا أعرف كيف أكتب مقالاً جديداً أُحذِّر فيه العلويين من مغبّة شيطنة أنفسهم.