كان عصر التنوير في أوروبا قد مهد الطريق لظهور فلاسفة ومفكرين في مقدمهم عمانوئيل كانط، الذي أرسى دعائم الفلسفة النقدية الحديثة، حيث اصبح النقد عنده سيرورة معرفية ترتبط بالنشاط المرتبط بالعقل النقدي. وقد امتدت رياح الحداثة والتنوير والنقد الى الأدب والفن واللغة والمسرح، فصدرت أعمال أدبية وفنية ومسرحية نقدية، كان في مقدمها مؤلفات ليسنغ ومسرحياته الكوميدية والتراجيدية التي لعبت دوراً مهماً في تطور المسرح النقدي في المانيا، وخصوصاً مسرحيته laquo;ناتان الحكيمraquo; عام 1779، التي كانت رسالة حب وتسامح ودعوة للحوار بين الأديان وتحذيراً من إطلاق الأحكام المسبقة وعدم التسليم الأعمى للعقائد. بهذه الأفكار التنويرية عبّر ليسنغ عما طرحه عصر التنوير من أفكار عقلانية حول العلاقة بين الدين والإنسان.

ناتان الحكيم
طرح غوتهولد افراويم ليسنغ (1729- 1781) في مسرحية laquo;ناتان الحكيمraquo; موضوع التسامح والحوار بين الأديان والشعوب، وهو موضوع قديم وجديد في آن، يعالج العلاقة الأزلية القابلة للجدل والتأويل بين الشرق والغرب والتعايش بين الأمم والشعوب وتأثير الأديان في المعتقدات وصدقيتها الأخلاقية. اعتبرها النقاد أهم درس في التسامح الديني الذي أشعل جذوة النقد، مستكملاً بها أعماله التنويرية وبخاصة كتابه laquo;تربية الجنس البشريraquo; الذي يعد من الكتب الفلسفية والنقدية المهمة، وفي الوقت ذاته، كانت خاتمة مسرحياته الـ15، والتي لا تزال تعتبر بحق من قمم ما وصل اليه الفن المسرحي في ذلك العصر والنموذج الأصل الذي سار على هديه كبار المسرحيين الألمان في ما بعد أمثال كلايست وغوته وغيرهما.
والحال يعتبر ليسنغ أول ناقد أدبي الماني ترك بصماته على المستوى النظري وأسس مع موسى مندلسون مجلة laquo;النقد الأدبيraquo; التي نشر فيها كتاباته النقدية المتفائلة بعصر التنوير، مع لمسات مدهشة في التصوف وشعر الحماسة. وهو بهذا منظّر أدبي وكاتب مسرحي وناقد اجتماعي في مستوى رفيع وعالم لغوي واسع الاطلاع في الآداب والفنون وفي الاختلافات الأساسية بين الشعر والتصوير والرواية والمسرح، إلى جانب كونه عالم جماليات.
في كتابه laquo;الدراما الهامبورغيةraquo; (1769)، تتبع ليسنغ عصور الأدب الألماني وتاريخ الفنون التشكيلية والدراما والتراجيديا من العصر الإغريقي مروراً بالباروك والركوكو، مستلهماً قواعدها الجمالية الكلاسيكية وقوانينها النظرية واستبدلها بقوانين التراجيديا الفرنسية وقواعد الدراما الشكسبيرية، مبيناً بوضوح أهمية أفكار عصر التنوير ومضمناً الجماليات الأدبية والفنية كل عناصر الواقعية والتحقيق، مثلما أقام بناء الشخصية الدرامية على التكوين الواقعي للشخصية المعتمد على التكوين النفسي بدل الشخصية المسطحة كما في المسرح الكلاسيكي.
ليسنغ والحوار بين الأديان
كان ليسنغ في كل كتاباته يضع أسساً لنظرية معرفية للتسامح، منطلقاً من الاقتناع التام بأن البشر لا يستطيعون الوصول الى الحقيقة المطلقة، وما هو ممكن هو الاقتراب منها فقط، وبهذا يصبح مطلب التسامح مؤسسا على نظرية تؤكد ان المعرفة المطلقة محدودة عند البشر ولا يمكن الوصول اليها، وعلى المرء ان يجتهد للحصول على معرفة اعمق، ومن يتوهم انه يمتلك الحقيقة يفوّت على نفسه إمكان الاقتراب منها. فهو يقول: laquo;إن ما يصنع قيمة الإنسان ليس الحقيقة التي يمتلكها أو يظن انه يمتلكها، وإنما ما يبذله من جهد صادق للوصول اليها.raquo;.
اما مسرحيته الشعرية الدرامية laquo;ناتان الحكيمraquo; فقد كتبها عام 1779 في قمة عصر التنوير في ألمانيا لتكون قصيدة حب وتسامح وحوار بين الأديان الثلاثة حيث تدور حوادثها في القدس إبان استعادة صلاح الدين لها في الحملة الصليبية الثالثة.
وناتان تاجر يهودي غني تحيط حياته ألغاز مغلفة بأحزان تراجيدية محاطة بالسرية. لكنه كان يحاول دائماً ان يثبت، وفي كل مناسبة، انه ليس مجرد يهودي وحسب، فهو يتمتع بشخصية طيبة ونبيلة ومتسامحة. ولكنه تعرض الى الاضطهاد في إحدى الحملات ضد السامية، فقتل مسيحيون متعصبون زوجته وأولاده السبعة. وللتعويض عن فقدانهم تبنى طفلة مسيحية اسمها رشا. وعندما وصل الخبر الى البطريرك أمر بحرق ناتان. غير ان استرجاع القدس من الصليبيين كوّن فرصة لقاء بين السلطان المسلم صلاح الدين والبطريرك المسيحي والتاجر اليهودي. وخلال الحوار يسأل صلاح الدين عن الدين الأفضل، فيتملص ناتان من الجواب، ولكنه يورد قصة الخاتم السحري الرمزية التي وردت في قصص ديكاميرون لبوكاشيو، حيث كان لرجل خاتم سحري يجعل حامله محبوباً عند الله والناس.
من يملك الخاتم السحري؟!
وكان للرجل ثلاثة أبناء يحبهم بنفس الدرجة. وقبل ان يموت بدأ يفكر، لمن يورث الخاتم السحري، ومن هو افضل أولاده؟ ولحل المشكلة قام بصنع خاتمين مشابهين له حتى يكون لكل واحد منهم خاتم. وبعد موت الأب بدأ الشجار بين الاخوة حول الخاتم الأصلي، حيث اعتقد كل واحد منهم انه يملك الخاتم السحري، وأن سلوكه هو الأفضل في الحياة. وذهب الاخوة الى القاضي، الذي لم يستطع بدوره معرفة الخاتم الأصلي، وطلب من كل واحد منهم ان يبرهن على ان خاتمه هو الأصلي ولكن بأفعاله الخيرة وصدقه وتسامحه مع الآخرين.
الدين الصحيح هو المعاملة الصادقة
يهدف ليسنغ إلى اكتشاف القيم المشتركة بين البشر، العابرة للحدود، التي ترسمها اختلافات الدين والثقافة. فالبشر لا يتلاقون بالدرجة الأولى كمنتمين الى أديان مختلفة، وإنما كبشر.
يسأل ليسنغ: laquo;هل إن المسيحي واليهودي هو مسيحي ويهودي قبل ان يكون إنساناً؟raquo;. ولذلك يقول: laquo;حرروا أنفسكم أولاً من قيود الأحكام المسبقة وابحثوا بينكم عن الحب الخالصraquo;، فالدين الصحيح هو المعاملة الصادقة وليس الأقوال. laquo;فالناس على رغم الطرق المختلفة والغامضة التي يسلكونها في الحياة هم جميعاً أقرباء وإخوة وأخوات... هم جميعاً أسرة واحدةraquo;.