عدت من مصر قبل أيّام قليلة، وقد تركتها خلافا لما تروّجه بعض الأوساط هنا في تونس، وفي أماكن أخرى ربّما، مزهوّة جدّا بتخلّصها من quot;الغمّةquot;، إذ تبدو للعارفين بها وكأنّها جسد استعاد روحه بعد أن وقف على سفح جبل الموت ومشارف النهاية، ولن أقول للطامعين في عودة الرئيس المعزول مرسي للسلطة مجدّدا، بما في ذلك جليل القدر نعوم تشومسكي، إلا قول المناضل والكاتب المصري العنيد الدكتور عبد الحليم قنديل quot;إن عشمكم هذا هو عشم إبليس في الجنّةquot;.
لقد ودّعت مصر إلى الأبد حكم الإخوان، الّذي كان لشرائح واسعة من المجتمع المصري كابوسا حقيقيّا مرعبا، لعل كثيرا من المصريّين لا يصدّقون إلى اليوم أنّهم غادروه، وفي مقدّمة هؤلاء كلّ عشاق الحرّية والفنّ والدّين السمح والحياة التي منحها الله هديّة لخلقه وجعلها مطيّة للآخرة، فقد بدت لهم بلادهم quot;أمّ الدنياquot; كما يحبّون تسميتها، خارج الدنيا تماما لما يقارب السنة، إذ تحوّلوا خلالها إلى غرباء على أرضهم، وفي مدنهم ونجوعهم وقراهم، تخيفهم ذقون طويلة وجباه موسومة ووجوه عابسة مكفهرّة و أجواء ملبّدة بكلّ أنواع الأزمات والنكسات والمآسي، وأعاصير منذرة باقتلاع منارات المساجد والكنائس المتعانقة منذ مئات السنين، ومفجّرة كمائن الحقد الديني والطائفي الدفين.
وما يشغل قطاعا واسعا من المصريين اليوم أن يكمّل الفريق الأوّل عبد الفتّاح السيسي quot;جميلهquot; عليهم، بأن يقبل خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، ليكون رئيس البلاد القادم وزعيمها التاريخي الممكن، فالسيسي بدا quot;اكتشافاquot; عظيما غير متوقّع لهؤلاء، يرون فيه ملامح زعمائهم التاريخيين، خصوصا الرئيس جمال عبد النّاصر، و يعتقدون أنّه يتوفّر على جميع مواصفات quot;المستبدّquot; العادل أو المخلّص المنقذ الّذي ينتظرون.
وما قد يفاجئ البعض، أن الفريق السيسي لم يكن إلّا اكتشافا للرئيس العبقري المعزول محمد مرسي، إذ كان الرجل أصغر أعضاء المجلس العسكري الّذي سلّم الإخوان السلطة، وكان قادة الجماعة ومعارضوهم على السواء، يظنّون أنه قريب منهم بالنظر إلى تديّنه الواضح وارتداء زوجته النقاب، وقد اختاروه قائدا جديدا للقوّات المسلحة ووزيرا للدفاع بناء على هذا التصوّر، ورأوا في التخلّص من سلفه المشير الطنطاوي خطوة أخرى على طريق quot;الأخونةquot; وquot;التمكينquot; لكنّهم مكروا ومكر الله والله خير الماكرين، وقد quot;طلع نقبهم على شونةquot; مثلما يقول المثل المصري، وخاب أملهم لأن نيّتهم لم تكن صافية وسعيهم لم يكن مشكورا.
وما قد لا يصدّقه البعض الآخر، أن الفريق السيسي لم يعد مطلب الشرائح الشعبية الاجتماعية البسيطة فحسب، أي الفقراء ومتوسّطي الدخل ممّن كانوا عادة قاعدة حكم الفرعون الأساسية منذ آلاف السنين، بل تحوّل أيضا إلى مطلب لرموز الحياة السياسية ممّن كان لهم مطمح رئاسي صارخ كحمدين صبّاحي زعيم التيّار الشعبي والمرشّح القوي الثالث لانتخابات الرئاسة الماضية، والّذي قيل أنّه كان سيفوز بالمنصب لو أنّه حلّ محلّ الفريق أحمد شفيق في مواجهة مرسي المرشّح الإخواني.
ويدرك صبّاحي و آخرون أن حكم مصر، والبلاد العربية بشكل عام، ليس مسألة هيّنة مضمونة النتائج، وأن الخطاب الديمقراطي المعزول عن الواقع، المهمّش لمقاربة أن الديمقراطية ليست فقط مجرّد انتخابات تعدّدية نزيهة بل هي أيضا قيم وثقافة شعبية، عادة ما يقود أصحابه للسير في خيارات quot;دنكيشوتيةquot; أو مغامرات سياسية غير محمودة العواقب، وأنّ بلدا مثل مصر وصل تعداد نفوسه قرابة التسعين مليونا، أكثر من نصفهم يعيش بأقلّ من دولارين في اليوم، وموارده الطبيعية محدودة، وعلاقاته بجواره الإسرائيلي والأفريقي متوترة في الغالب تتطلّب الإنفاق المستمرّ على التسليح ومتطلّبات الأمن القومي، ليس له ترف معايشة quot;دولة فاشلةquot; أو quot;ديمقراطية خائبةquot;، تضيّع فيها النخب المدنية والسياسية المتناحرة مصالح البلد العليا.
لكنّ المصريّين وجدوا حلّا وحلما ومشروعا ممكن التحقيق في الفريق السيسي، قد يؤمّن الأمن والاستقرار وبعض الازدهار لبلدهم طيلة العشرين عاما القادمة، ولن يتخلّوا عن مناشدته ودعوته لخوض الغمار الانتخابي المضمون حتى يقبل، وسيبسط الرجل سلطته وهيبته على البلاد، وسيدعو نخب مصر إلى أحد الحلّين إمّا الانضباط والتعاون مع النظام الجديد، أو مواجهة عواقب المغضوب عليهم ولا الضالّين، وستستجيب غالبيتهم وتعمد قلّة من بينهم إلى ممارسة النفاق والمديح حتى تفسد الرجل في آخر خمس سنين وتبذر نهايته بذلك قبل أن تستكين، ويمضي المصريون في الحلم بمستبدّ عادل جديد.
غير أنّ هذا ليس حال التونسييّن، وما هو بيّن ثابت أنهم لو طلبوا quot;المستبدّquot; حاليا ما وجدوه، فالمستبدّ quot;خلطةquot; لا تتوفّر في كل زمن وحين، والنظام الاستبدادي كما أشرت في مرّات سابقة ليس المقابل العكسي للنظام الديمقراطي، فكلاهما قد يكون أداة هدم أو بناء وتنمية، وثمّة كثير من المفكّرين من يرون في نابليون مقدّمة للديمقراطية الفرنسية وفرانكو نظيره الإسباني، كما أنّ مستبدّين كثرا في التاريخ القديم والحديث والمعاصر كانوا بناة حضارة عظام، تقدّموا بشعوبهم، وازدهر الاقتصاد والتجارة في زمنهم، وعمّ الرفاه الاجتماعي في عهدهم، فيما اقتيدت بلاد كثيرة للفوضى والخراب والضياع والفتن جرّاء وقوعها في براثن أنظمة ديمقراطية، اختلفت فيها النخب السياسية و تبارزت وتقاتلت حتّى تسبّبت في ضياع الحرث والنسل والدّين.
وليس كل امرئ قادر على أن يكون مستبدّا، فالمستبدّ عادة ما يضع حياته بين كفّيه، وسياسته القائمة على إرهاب الآخرين من أجل إخضاعهم عادة ما تخلق له أعداء حميمين يزرعون الشك والموت في طريق الزعيم، ولا يصنع المستبدّ بين عشية وضحاها إذ قد تستغرق عمليّة صناعته عقودا طويلة يخوض فيها تجارب مريرة حتى تنضج موهبته الديكتاتورية و يتطوّر حسّه الاستبدادي ويكون قادرا على إقامة نظام خاضع بالكامل لمشيئته، يشمل جميع مكوّنات الأنظمة وسلطاتها المعتادة.
وما يخشى على تونس أن لا تدرك الديمقراطية الحقّة، ولا تجد في الوقت نفسه quot;مستبدّها العادلquot; المنقذ، فتنزلق إلى أتون quot;الدول الفاشلةquot; وتسقط لا قدّر الله في غواية الفتنة ودوّامة الإرهاب القاتلة.