يصعب تحديد منطق للتاريخ على وجه الدقة، فمن حيث تتوقع أن يفضي حدث ما مزلزل إلى كارثة فإنه يقود إلى منجز عظيم غير متخيل، تماما مثلما يعجز غالبية البشر على استشراف نهاية واضحة لحالات طارئة قد تستمر ردها من الزمن يفوق أعمارهم القصيرة، و من هنا فإن quot;النكبةquot; التي طالما طعنت العرب في كبريائهم القومي و أشعرتهم بالألم الجارح و أفقدتهم الثقة في النفس، قد تكون من منظور quot;تاريخيquot; صحوة، تماما كما يمكن أن يكون هذا quot;الربيعquot; الذي بدا لكثيرين أنه تحول إلى quot;صيف قائضquot; أو quot;شتاء قارسquot; أحد تجليات هذه الصحوة الأممية.
و يضرب مثل الأندلس في هذا السياق، إذ لطالما أبدى المسيحيون في القارة العجوز مخاوفهم من انغلاق الدائرة و تحول المتوسط إلى بحيرة إسلامية، خصوصا بعد أن دق سلاطين بني عثمان على أبواب فيينا، لكن منجز التاريخ جاء بما لم يشته المسلمون، فقد ساهم الأندلسيون دون تخطيط مسبق منهم في ترجمة اليونان و نقلها إلى أوربا القرون الوسطى، و ساهمت الرشدية في نفض غبار التخلف عن العقل الغربي، و من تلاميذها quot;توما الإكوينيquot; الذي نقل الإصلاح إلى لوثر و كالفن ثم فلاسفة الأنوار و صناع الثورة الفرنسية و الثورات المنبثقة عنها، حتى تتويج المسار بما وصل إليه الغرب اليوم من عنجهية و اعتبار.
و قد بدا غرس quot;الدولة اليهوديةquot; في جسد الأمة العربية و الإسلامية فسادا في الأرض و بؤرة استيطانية استعمارية ظالمة، لكن العجينة quot;الأشكنازيةquot; الغربية التي صنعت نكبة 48 ليست في واقع أمرها ليست سوى عصارة التقدم العلمي و التقني و العسكري الذي أدركته الحضارة الأوربية، و على الرغم من كونها نشازا في فضائها الجغرافي و الديمغرافي و الثقافي، فإنها لم تعمل طيلة 65 عاما من قيامها سوى تطوير خلايا المناعة في جسم المقاومة و رفع مستوى اللعب مع طرف الصراع الآخر، العربي و الإسلامي في المنطقة.
و لن تعوز المتابع حجة في تقييم أوضاع المجابهين للمشروع الصهيوني في دوائر المواجهة الفلسطينية و اللبنانية، ليخلص إلى أن حالة التقدم الحاصلة جديرة بالرصد و المتابعة، و كان تيودور هيرتزل مؤسس الحركة الصهيونية و مؤلف كتاب quot;الدولة اليهوديةquot; قد أشار إلى بعض من ذلك، إذ حاول إغراء السلطان عبد الحميد بما سيجلبه الكيان الإسرائيلي المرتجى على أراضي السلطة المحيطة من ازدهار و رخاء، غير أن ما كان متوقعا تحققه بالصداقة ربما تحقق ولو بدرجة أقل عبر الجفاء و العداء و المقاومة.
و لا يجد المؤمن بقوة التاريخ بدا من التنبيه إلى تهافت حل الدولتين، ففلسطين التاريخية يجب أن تظل موحدة بأكملها، في ظل الاحتلال غير مجزأة أو منقوصة، على الرغم من الجدران العازلة و الحواجز المانعة، و لن يكون أمام ساكنتها المتعددة من مسلمين و مسيحيين و يهود إلا النضال لإسقاط دولة quot;ألابرتهايدquot; كما فعل الأفارقة، فالأرض لا تتسع لأكثر من دولة، و الاثنيات و الأديان و القوميات و المذاهب و الطوائف و الأحزاب و الحركات قادرة إذا ما حضر العقل و اعتصم بحبل القيم الانسانية و الإبراهيمية الجامعة على تحويل quot;القدسquot; إلى مدينة للسلام فعلا بدل الحرب الأبدية، و إلى تحويل بلاد الأنبياء إلى بلاد للتلاقح الحضاري و البناء بدل أن تكون بلاد الحرمان و الشقاء.
و يدرك الإسرائيليون قبل غيرهم، و خصوصا المثقفين و المبدعين المستنيرين منهم، أن العنصرية لا مستقبل لها، و أن الدولة اليهودية و سائر الدول الدينية مقولة لا مكان لها في رحم تاريخ البشرية الموحد المتدافع نحو الدولة المدنية الديمقراطية الإنسانية المؤمنة إيمانا عميقا بوحدة الجنس البشري و كرامته و حقوقه، و أن اليهود لن يفقدوا حقوقهم أو هويتهم أو ديانتهم إذا ما قبلوا بالشراكة التاريخية مع أبناء عمومتهم في فضاء غير قابل للتجزئة و إن فرضت عليه بقوة السلاح و قساوة المشروع القادم من خارجه.
و على الرغم من انقلاب الطقس الربيعي الذي بدا مبشرا بصحوة عربية، و تدحرج المنطقة إلى عاصفة من الخراب الإنساني و الحروب الطائفية و الفوضى الجماعية، فإن القاعدة التاريخية الأنفة لا ترى إلا سارية مفعولها، ففي باطن كل محنة تلوح منحة في الأفق، و من حيث تبدو قيادة الدولة اليهودية مغتبطة بما يجري من انقلاب حال العرب من أمل في الديمقراطية إلى يأس من الثورة، فإن المتغيرات المتوقعة لن تذهب إلا في مجرى عقارب الساعة الثابتة، و لا ضير من التذكير بالدرس اللبناني عندما تمكنت الحلقة الأضعف عربيا من الناحية النظرية من تمريغ وجه الدولة العبرية أكثر من مرة في وحل الهزيمة الساحقة، فما البال بتناسل حلقات من ذات الصنف و الطينة إن لم تكن أشد عصفا.
و سيكون من عبر المرحلة أن تمحص تجارب الربيع الحقائق من الأساطير البالية، و من حيث ظنت جماعات الإسلام السياسي أنه زمن الانتصار ستقف بأم عينها على تجارب الانكسار، و ستتفتح أمام الأمة آفاق العقلانية و الديمقراطية و الروحانية الحقة الرقراقة الصافية، تماما كما تولدت جل حركات الإصلاح و التصحيح و النماء من مخاضات أزمات حارقة عاصفة، و بعد غيمات الضباب التي حطت مع فجر الربيع ستبزغ على الشرق الكبير شمس الحقيقة البائنة التي ستظل أقوى من أي عقيدة ممكنة، و سيكتشف المؤمنون بقوة التاريخ و زخمه أن النكبة مؤقتة زائلة و أن الفصول أبدية دهرية فاعلة.
كاتب صحفي من تونس
التعليقات