من روائع المعاني التي أبدعها الشاعر الجواهري قوله فيما يتنازع الإنسان من مشاعر حين يكون على ضفة الإختبار بين البقاء الآمن والرحيل المجيد، ففي قصيدته الزاهرة { دجلة الخير} يشكو لنا سطوة النقيضين: وأركب الهول في ريعان مأمنةٍ *** حب الحياة بحب الموت يغريني، ويشرح لنا ذلك الخيار الصعب، بمثال السائرين في دروب النضال ضد الطغاة، لا يرهبون المشانق، لكنهم أكثر الناس تعلقاً بالحياة، ولا تمنعهم نشوة الإحساس بالحركة والعزيمة من أن يهبوهما لشعب يتلمس خطاه نحو الحرية، فالحياة عندهم غاية، والموت وسيلة لعيش أفضل لغيرهم. وفي زمان الشاعر كما كان للحياة معانٍ جميلة تحسرت عليها الأجيال اللاحقة، فإن الفقدان أيضاً كان محفوفاً بالجلال، جديراً بالتأمل، حتى لو كانت الراحلة مثلاً قد بلغت من العمر أطوله وملُت نفسها قيد الجسد، ففي مرثية عبد المطلب الحلّي، لجدة الجواهري (صيتة)، نراه غير مصدّق لجرأة القدر، عاتباً عليه:

أرأيت؟ كيف ترقُّت همةَ النوب *** إلى ذرى خيمةٍ مضروبة الطنب
ذلك الترابط بين الرغبة في الحياة، وتقبل التضحية، موصولاُ بفكر واضح عن حب الوطن، والإيمان بالله بصيغة بسيطة تتماهى مع الإنسان وطموحه إلى عيش رغيد، لم نعد نجده في عالمنا المشحون بالحقد، المزدري لنفوس البشر حدّ إهدارها دون رحمة، ما الذي جعل كثير من شبابنا يغلقون أبواب عقولهم ويستسلمون للمبشّرين من صنّاع الجحيم؟ ما الذي يصور لشاب يافع مشهد تفحم جثته وتناثر أشلائه على أنها أجنحة ملائكة تحلّق صوب السماء، ويتنسم دخان الحرائق على أنه رائحة الجنّة، وإذا التمسنا العذر للجهلاء، فكيف نعذر المتعلمين وأصحاب الشهادات العليا؟
ما الذي يغريهم بفكر يفتقر إلى جمالية الحياة وسيرورتها الطبيعية، لماذا يستطعمون ثمر الكراهية لمن يخالفهم الدين أو المذهب؟
أسئلة كثيرة تجد إجاباتها الأهم لدى منظومة الفتاوى، قديمها وحديثها، ذلك الحصن اللغوي الذي تتحول الكلمات فيه إلى أسلحة فتّاكة، تقتل الناس، فلا يوقظ ضجيج الدماء أرواح من ابتدعوها ويناموا ملء تاريخهم وحاضرهم. من هذا المنطلق جاءت كلمة الملك عبد الله بن عبد العزيز، التي وجهها لكبار العلماء والمشايخ، وبخاصة الى المفتي العام للمملكة، محذراً إيّاهم بأن هناك من يغرروا بالأطفال والشباب، ويلقنونهم فنون التكفير، ملقين بهم في التهلكة، ما يدعوا إلى التشدد بالأحكام عليهم أكثر مما هي عليه الآن (الشرق الأوسط 24-04-13). ماذا يعني هذا الخطاب؟ أليس يؤشر إلى تهاون المؤسسة الدينية المسيطرة على المجتمع في مسؤوليتها تجاه حفظ حياة الناس وتنبيههم إلى أهمية الجانب الإنساني من الدين، وإعلاء قيمة الآيات التي تؤسس لمبادئ التعامل الحسن، وحرمة الدماء، بعيداً عن مراحل تاريخية اقتضت نصوصا معينة، ولكن أليس تغليظ الأحكام ضد المجرمين من اختصاص الدولة، فما المطلوب من القيّمين على أمور الدين، المطلوب كثير وعاجل، وهو أن يقولوا قولاُ واضحاُ، خالياُ من التحفظ المعهود تجاه التراث المنقول، أن يرفعوا القدسية عن بعض الفتاوى القديمة التي أدّى تطبيقها إلى تبرير العمليات الإنتحارية والتفجيرية. المهم ليس أن نقول بأن الإرهابيين ضلّوا عن التفسير الصحيح للفتوى، هذا لا يكفي، وإنما التصريح بأنها لا تنتمي لزماننا، ويفصلنا عنها ما يزيد عن ألف عام. ما هي تلك الفتوى التي أسس عليها الإرهابيون شريعة الدماء؟ إنها ببساطة quot;التترسquot;، هنا لابد من التوضيح، فالفتوى وإن اَتخذت كمبدأ لارتكاب العنف، إلا أن الممارسات تجاوزتها إلى فتاوى أخرى ذات منبع طائفي في دائرة التأسلم السياسي كاعتبار الشيعة quot;أخطر من اليهودquot; وإن قتل أياّ منهم يفتح الطريق إلى الجنّة، أو تتسم بالإصرار على التمييز ضد المواطنين من غير المسلمين، وتحقيرهم بوصفهم أحفاد quot;القردة والخنازيرquot;!!
ما معنى التترس؟ هو قول ينسب إلى الإمام إبن تيمية (1263-1328م)، يتعلق بحالة مواجهة حربية بين جيش المسلمين وأعدائهم، ويفيد بأن العدو إذا ما أسر عدداً من المسلمين وجعلهم رهائن أو دروعاً بشرية، ليضمن توقف الهجوم عليه، فإنه يجوز لجيش المسلمين أن يواصل ضرباته للأعداء إذا ما خشي على المسلمين من الضرر، حتى لو أدى ذلك إلى قتل الرهائن الذين تترس بهم (أحتمى بهم) الجيش المعادي. عاش بن تيمية في ظروف حرب بين المسلمين والمغول، وكان يحضّ على قتالهم، وما جاء به من مقولة الترس، ليس أمراً مقدساً، فقد سبق أن عالج أئمة كبار فرضية وقوع مسلمين في أسر الأعداء، وعلى سبيل المثال فقد حرّم الإمام مالك ابن أنس ( 711-796م) فكرة التترس، وذلك استناداً إلى الآية 25 من سورة الفتح، التي نصت على:
{ هم الذين كفروا وصدّوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا ان يبلغ محله، ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ان تطؤوهم فتصيبكم منهم معرّة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزَيّلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما } ( بحث بعنوان: تنظيم القاعدة نشأته وأصوله الفكرية.. بقلم د. صبري محمد خليل). وتفسير هذه الآية حسب عدد من المصادر، كابن كثير، يتلخص في أن قريش منعت الرسول (ص) وأصحابه من زيارة البيت الحرام في عام الحديبية، وإن الله لم يأذن للمسلمين آنذاك أن يدخلوا مكة عنوة، حرصاً على أرواح النساء والرجال ممن أسلموا سرّاً ومازالوا يعيشون فيها، ولو أنهم قاتلوا الكفّارآنذاك وتسببوا بقتل المسلمين لكان ذلك عاراً عليهم، لعدم إمكان تمييز المسلمين من غيرهم أثناء المواجهة ( لو تزيَلوا) أي لو استطاع صحب الرسول أن يميزوا بين المسلمين وغيرهم لجاز القتال، لكن ذلك كان محالاُ. إذاً فكرة التضحية بالترس لم تكن مقبولة منذ زمن طويل لتعارضها مع القرآن الكريم.
الجماعة الإسلامية في مصر، التي اشتهرت بالعنف، ومن خلال مراجعاتها الفكرية والفقهية، توصلت على حد قول أحد قيادييها د. عصام دربالة، إلى أن منظمة القاعدة أخطأت في اعتمادها على فتوى التترس، ذلك أن تطبيقها يقتضي وجود جيشين متحاربين، ورهائن مسلمين أسرى لدى جيش العدو، وهذا ما ذهب إليه أيضاً فقيه القاعدة سيد إمام في مراجعاته، وأشار إلى أن المسلمين الذين يعيشون في البلدان غير الإسلامية، هم ليسوا أسرى وإنما مواطنين أو مقيمين كأبنائها، ويقصد أن من يقوم بالتفجير هناك لايستطيع أن يستند إلى مقولة الترس. وفي هذا السياق، كان د. ناجح إبراهيم ( قيادي في الجماعة الإسلامية أيضاً) قد أصدر كتاباً بعنوان (تفجيرات الرياض، الآثار والأحكام)، فنّد فيه مزاعم الذين قاموا بتفجيرات الدار البيضاء quot;وسفك دماء المسلمين تحت مسمى مسألة التترسquot;، وشرح الشروط التي يمكن بتوفرها تطبيق هذه الفتوى، وهي كما تقدم من وجود جيشين في حالة حرب، وأسرى مسلمين، وأن لا يشمل الترس غير الأسرى ولا يتعداهم إلى السكان المجاورين، وأن تكون هناك مصلحة للمسلمين بضرب العدو مع الأسرى، وأن لا يكون هناك سبيل لنجاة جيش المسلمين إلا بهذا الحل. نستخلص من هذه المراجعات والتوضيحات إن مقولة التترس لاتبرر أعمال الإرهابيين، سواءً استهدفت مسلمين أو غير مسلمين، فكيف لنا مثلاً أن نفهم مصلحة في تفجير سوق شعبي، أو موكب جنازة، أو احتفال للأطفال في بغداد، أو جمهور من الناس المبتهجين بعرض رياضي في مدينة بوسطن، أو مقام ولي صالح في تينبكتو، أو حفلة عرس في عمّان ؟
وبعد فإن نظرية التترس التي يحتج بها من يقتلون الأبرياء، تصلح للتطبيق عليهم، فهم حين يطلقون النار على قوات الشرطة، ويحتجزون رهائناً، ويهددون بتفجير مواقع حساسة، كما حصل في إمناس بالجزائر، فإنهم يقدمون المبرر للسلطات بأن تطلق النار عليهم، حفاظاً على الأمن العام، أي إن مصلحة المواطنين تقتضي قتل الإرهابيين، فهم الذين يتترسون بالمسلمين وغير المسلمين لتنفيذ مطالبهم، ويسلكون كعصابات معادية للجيش الوطني في كثير من البلدان.
أعود إلى حديث الملك عبد الله لرجال الدين، وأرى أنه يتعدى في مدلولاته علماء السعودية إلى نظرائهم في بلدان عربية وإسلامية أخرى، لأن المسؤولية مشتركة والفكر المتطرف جذوره واحدة. ويلاحظ إن المؤسسات الدينية المهمة لم تقم بدورها المطلوب في تفنيد مقولات الإرهابيين وبيان ضعف حججهم، أوهي لا تريد أن تتخذ موقفاً حازماً منهم لحسابات مختلفة. وأنا أكتب هذا المقال قرأت بيان الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين بشأن الأوضاع الخطيرة في العراق. محتوى البيان يبدو مقنعاً في بعض فقراته، كالنص على تحذير دول الجوار من التدخل في شؤون العراق، واستغلال العوامل الطائفية والعرقية، والتأكيد على وحدة البلاد، ولولا كون رئيس هذا الإتحاد، هو الداعية الفضائي الشهير، الدكتور يوسف القرضاوي، لقلت إن البيان جيد بعض الشيئ، مع مافيه من مؤخذات. ليس من المهم أن نتذكر بأن هذا الإتحاد كان صامتاً طيلة السنوات التي سالت فيها دماء العراقيين على أيدي عصابات القاعدة وحلفائها من بقايا النظام السابق، فهناك كثير من الذين صمتوا، ولكن لنعود إلى بعض فتاوى الشيخ القرضاوي بشأن العراق، لنستطيع أن نقرر هل نقبل بيان الإتحاد بحسن نية، أم نتوقف عنده بحذر.
ولنقرأ التالي: أولاً- دعا في برنامج الشريعة والحياة الذي يعرض على قناة الجزيرة، بتاريخ 03-03-13، إلى قتل رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، ومن هنا لا يمكن أن نصدقه حين يختم بيان الإتحاد بالكلمات التالية: quot;نسأل الله العلي القدير أن يحفظ شعب العراق، وأن يرزق أهله الحكمة وحسن التدبير ويجنبهم الفتن..quot;، لا نصدقه لأن من يدعوا إلى القتل فإنه لا يتوخى الحكمة بل يوغل في الفتنة. وكان عضو اللجنة العليا للإفتاء في كردستان، أحمد شافعي قد انتقد تصريح القرضاوي، وقال إن إهدار دم أي شخص مسلم، أو غير مسلم، لا يخدم الدين.
ثانياً- قبل الإحتلال الأميركي للعراق، قال: quot;إذا غزا العدو بلداً مسلماً فيجب على جميع أهله أن يخرجوا لطرده.. فإن لم يقدروا انتقلت الفريضة إلى جيرانه من المسلمين..quot; هنا يعترف الشيخ بأنه دعا إرهابيي القاعدة من العرب إلى العمل في العراق والإنتقام من العراقيين، لأنهم لم يطردوا الأميركيين فقد كانوا مهتمين بالخلاص من صدّام، وهذا ما لم يلحظه الشيخ لأنه كان موالياً له.
ثالثاً- في العام 2005 أفتى بتحريم العمل في أجهزة الشرطة والأمن العراقية، زاعماً بأن ذلك يعين المحتلين، وبهذا فقد برر عمليات القاعدة بقتل منتسبي الشرطة وتفجير مراكزهم.
رابعاً- في 2006 أصدر فتوى أخرة، تدعو إلى الإنتساب للشرطة وأجهزة الأمن، كي لا تبقى الساحة خالية للشيعة، حسب قوله.
خامساً- دعا إلى قتل المدنيين العاملين مع القوات الأميركية، وبالطبع فهذا يشمل آلافا من الموظفين في مجالات مختلفة، من عمال النظافة إلى المترجمين، وغيرهم، لأن الأميركيين لا يتمكنون من تشغيل مرافق الدولة دون العراقيين.
بعد كل هذا، ألا يجدر بكل الحكومات أن تتخذ أشدّ الإجراءات ضد الدعاة الذين يعاضدون الإرهاب، وتنشرح صدورهم لمشاهد جزّ الرقاب على وقع التكبير؟ أوَ ينجى أي بلد من شرور الإنتحاريين والتفجيريين، ونحن نرى كيف تدور الدوائر، فالقاعدة التي كانت بالأمس محل رعاية النظام السوري الذي كان يجند شبابها للعمل في العراق، اليوم تصب حممها على راعيها السابق، والشعب السوري وتخترق انتفاضته، وكل من يدعم الإرهاب ما يلبث أن يرتد عليه، ومن يقدم العون اليوم لعصابات عزة الدوري (نائب صدام)، سوف لا ينجى من شرورها غداً.