من مفكرة سفير عربي في اليابان

أنصدم الشعب الياباني بموجة العنف التي حدثت في الشهر الماضي بمصنع للطاقة في الجزائر، والتي أدت لقتل الكثير من المدنين الأبرياء، والذي ضم أيضا عدد من العاملين اليابانيين. ويستغرب الشعب الياباني لهذا النوع من العنف، في منطقة تدين بالإسلام، ويكرر فيها علماء دينها الأفاضل بأن الإسلام دين المحبة والتناغم والسلام، كما أن القتل محرما في الروحانيات الإسلامية، فقتل نفس بريئة كقتل الناس جميعا. ويبدو بأن منطقة الشرق الأوسط قد تعرضت لعدوى العنف والإرهاب، والذي ينتهي عادة بقتل الأبرياء من أطفال ونساء ورجال، بالإضافة لفقدان المتطرفين لمستقبلهم، بل وحياتهم. ويبقى السؤال: ما الذي يحاول هؤلاء المتطرفين تحقيقه بالقتل؟ أليس من الغرابة أن تصر بعض أفراد شعوب عن ثقافة الموت، بينما تبحث شعوب اخرى عن ثقافة quot;الشباب الخالدquot;؟

يعتبر البروفيسور الأسترالي الأصل والأمريكي الجنسية، بيتر سنجر، أستاذ أخلاقيات التكنولوجية البيولوجية بجامعة برونستون الأمريكية، من خيرة مفكري القرن الحادي والعشرين، وهو متخصص في دراسة التناغم بين التكنولوجيات البيولوجية والأخلاقيات التي يمارسها البشر، للمحافظة على هذه التكنولوجيات في خدمة الإنسانية، والوقاية من شقائها المادى والنفسي والروحي. وقد كتب البروفيسور سنجر مؤخرا كثيرا عن التكنولوجية الطبية وquot;الشباب الخالدquot;. ونشرت صحيفة اليابان تايمز في الثالث عشر من شهر ديسمبر الماضي مقال له بعنوان، هل سيناضل الإنسان للعيش لسن الألف سنة. تصور عزيزي القارئ يتحدث هذا العالم الجليل عن كفاح الإنسان لكي يعيش شباب خالد ويبقى حيا حتى سن الألف، بينما نجد في مجتمعاتنا الشرق أوسطية شباب يتراكضون على ثقافة الموت، متخوفون من عذاب القبر والثعبان الأقرع، وكأنهم يتسارعون لضمان مواقعهم في قصور الجنة بحورها العين وغلمانها المخلدين. ومن العادة في مجتمعاتنا الشرق أوسطية يتحول الإنسان بعد سن الستين إلى إنسان متقاعد، أي إنسان ترك مقعد العمل، وأستعد نفسيا إلى الموت، ليزيد فجأة من زيارته إلى المسجد، والمقابر، ويكثر من سفاراته للعمرة والزيارة، وينتظر الاخرة، ودخول الجنة، وكأن سن الستين هو سن الموت.

وفي الحقيقة بأن الثقافة اليابانية هي ثقافة الحياة والإنتاجية، فيستمر المواطن الياباني في العمل بعد سن الخمسة والستين بالعمل كمستشار في عمله أو يتفرغ للعمل التطوعي، وعادة حينما يكمل الستين الأولى من عمره، يحتفل بعيد ميلاد جديد للعيش لستين سنة أخرى. وحينها يدعو الياباني أقاربه وأصدقائه لحفلة عيد ميلاد جميلة، ويهيئ قطعة قماش حمراء، ليكتب عليها جميع الأهل والأصدقاء أسمائهم، كما يهيئ الأصدقاء له رداء أحمر اللون ليلبسه في هذه الإحتفالية، إحتفالية عيد الميلاد لسن الستين. وقد يتساءل القارئ العزيزي ما سر هذا الرداء الأحمر؟ لقد تعود الشعب الياباني بناء معابده الدينية في وسط الغابات وعلى سفوح جبالها. وقد كانوا يحتاجون قديما لثور قوي يستطيع الصعود لقمة الجبل حاملا ثقلا كبيرا، من الأخشاب المقطوعة من الغابة لبناء المعبد. ولذلك كان الثور بقوة عضلات كبيرة، لمقاومة صعوبة الصعود للجبال الشاهقة، وقد ينتهي به التعب والإعياء للموت. ومنذ ذلك الوقت يعبر اليابانيون عن القوة والتفاؤل بمستقبل مزدهر، بمجسم ثور أحمر متحرك الرقبة. ومع الوقت أصبح اللون الأحمر والرداء الأحمر، تعبيرا عن المستقبل المزدهر والباهر مع طيلة العمر، لذلك يحتفل الشعب الياباني بولادة الطفل أيضا في معابد الشنتو اليابانية بلف الطفل الوليد برداء أحمر. وتكرر هذه الاحتفالية حينما يبلغ المواطن الياباني الستين من العمر، فليلبسه أصدقاءه في احتفالية عيد الميلاد الستين رداءا أحمرا، أملا أن يعيش ستين سنة أخرى بصحة وعافية وسعادة، أي حتى يصل لسن المائة والعشرين سنة. ومن المعروف بأن الشعب الياباني من أطول شعوب العالم عمرا، فيتجاوز متوسط العمر بينهم الثمانين سنة، كما يصل نسبة حوالي ربع الشعب الياباني الخمسة والستين، ويتجاوز 11% منهم 75 سنة، وهناك حوالي عشرة مليون مواطن يفوق عمره المائة سنة. والجدير بالذكر بأن شعوب منطقة الشرق الأوسط لا يتجاوز نسبة السكان الذين تتجاوز أعمارهم 65 سنة عن 2%.

ويهتم الشعب الياباني بالمحافظة على صحته بممارسة الصحة الوقائية. فالأكل الياباني صحيا جدا، وكميته قليلة، كما أن المواطن الياباني يتجنب الكسل، فهو طوال اليوم كالنحلة يعمل بجد واجتهاد، ويقضي ساعات طويلة للوصول لمواقع العمل والرجوع إلى البيت. كما يهتم اليابانيون بمحاربة الشيخوخة، وذلك بالذهاب لعيادات الوقاية من الشيخوخة، واستخدام المستحضرات والإعشاب التي تطيل العمر. كما يهتم العلماء اليابانيون بالأبحاث العملية المتعلقة بمعرفة أسباب الشيخوخة والوقاية منها. وقد ركز الباحثون اليابانيون مؤخرا على دراسة أسباب أمراض الشيخوخة أيضا، والتي تسمى بالأمراض المزمنة اللاوبائية، والتي تضم زيادة الضغط ومرض السكري ومرض زيادة الكوليسترول، والتي عادة تؤدي للجلطة القلبية والسكتة الدماغية، بالإضافة للسرطان. وقد أكتشف العلماء اليابانيون مؤخرا بأن السبب الرئيسي لأمراض الشيخوخة هو تدهور إنتاج الطاقة في الخلية بسبب اضطراب استخدام الأوكسجين في عملية الاستقلاب الكيماوية.

ولنحاول عزيزي القارئ تسهيل الموضوع بمقدمة علمية مبسطة. فلنتذكر بأن الجنين يبدأ من إنداماج نصف خلية ذكرية تسمى الحيوان المنوي، ونصف خلية أنثوية تسمى البويضة. وباندماج هذه النصفين تتشكل خلية جنينية كاملة، لتبدأ عملية انقسام الخلايا، وليتشكل الجنين ويكمل نموه بعد الولادة، ليتكون جسمه من تريلونات من الخلايا الميكروسكوبية الصغيرة. فيتكون الجسم البشري من وحدات تسمى بالخلايا، ولنتفهم حقيقة الخلية، سنحاول تشبيهها بمدينة صناعية مغلقة بأربعة جدران وسقف، وبها مصانع كثيرة، وقيادة للإدارة، بالإضافة لمصانع تنتج الطاقة، ومصانع تجمع المخلفات والمياه المستخدمة، وتقوم بتطهيرها وتنظيفها من السموم واستخدامها مرة أخرى. وتعتمد مصانع الخلية على الطاقة المنتجة من استخدام الاوكسيجين، الذي يتنفسه الانسان من الهواء، وتقوم الكريات الحمراء الموجودة في الدم بنقله من الرئة إلى الخلايا، بواسطة مادة خضاب الدم، الهيموجلوبين، الموجودة بكريات الدم الحمراء، في دم الإنسان. ويحتاج الجسم لتكوين الهيموجلوبين إلى مادة الحديد ومواد بروتينية أخرى، ومن أهم هذه المواد البروتينية هي حمض أميني يسمى بالحمض الأميني اللينوليكي (5 ALA). وقد أكتشف علماء اليابان بأن الحمض الأميني اللينوليكي يرتفع لأعلى مستواه في الدم في سن 17 سنة من عمر الإنسان، ويبدأ بعدها بالإنخفاض حتى يصل في سن 120 سنة الى نسبة الصفر. ومع نقص هذا الحمض الأميني في الجسم تتدهور وظائف الخلية، بتناقص استخدام الأوكسجين لإنتاج الطاقة التي تحتاجه الخلية.

وحينما تتناقص إنتاج الطاقة يقل استفادة الخلية من المواد الغذائية التي يأكلها كمادة السكر والكوليسترول، ليبدأ ارتفاع نسبها في الدم، ولتتحول الخلية من مرحلة شبابها تدريجيا، لمرحلة الشيخوخة. وقد أكتشف علماء اليابان طريقة تكنولوجية لإنتاج هذا الحمض الأميني من الخضروات، كما وجدوا بأن أعطاء هذه المادة الغذائية عن طريق الفم يمكن أن ترفع نسبة هذا الحمض الأميني في دم الإنسان، لتحسن من استخدام مصانع الخلية مادة الاوكسجين لإنتاج الطاقة. وفعلا أجريت أبحاث علمية في الولايات المتحدة واوروبا وأسيا لتثبت بأن تناول هذا الحمض الأميني بجرعة 100 مليجرام يوميا، يساعد على تحسين أنتاج الخلية للطاقة، وإطالة عمر شبابها، وتأخير عمر شيخوختها، وبذلك تؤخر الاصابة بمرض السكري وأمراض زيادة الكولسترول والدهون، بل والسرطانات أيضا. ولمضاعفة تأثير هذه الحمض الأميني يحتاج الإنسان للغذاء الصحي، قليل الدسم والسكريات، وكثير في اللحوم البيضاء، والسلطة والخضروات والفواكه، مع الرياضة المنتظمة، وقلة القلق والضغوط الحياتية. ولتحقيق ذلك يحتاج الإنسان لتطوير عقله الجميل، بذكاءه الذهني لتفهم العلوم المتقدمة، وذكاءه الاجتماعي ليتعامل مع أقرانه بسماحة ولطف، وذكاءه العاطفي ليسيطر على العواطف الحادة ويوجهها في مصلحته، ويبعده عن القلق والضغوط الحياتية، وذكاءه الروحي ليزيد من أخلاقيات سلوكه وحلمه وحكمته، ويبعده عن التطرف والتشدد. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في طوكيو