في الذكرى السنوية الرابعة عشر لإعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان عمدت السلطات التركية وللمرة الأولى إلى نشر معلومات بسيطة عن يوميات أوجلان في السجن، فقالت إنه يصرف شهريا 300 ليرة تركية ( 167 دولارا ) على شراء المجلات وبعض الأطعمة وإنه قرأ 2300 كتابا ومجلة ويعيش في غرفة مساحتها 11 مترا، فيما يحرسه قرابة 700 ضابط وعنصر! بالتناوب في جزيرة ايمرالي.
دون شك، تسريب هذه المعلومات عن حياة أوجلان ويومياته في السجن ليس من دون معنى أو لوجه الله كما يقال، بل يحمل دلالات بالغة ولاسيما لجهة التوقيت وتكوين صورة جديدة عن أوجلان لدى الرأي العام التركي بعدما وصفته الحكومات التركية المتتالية طوال الفترة الماضية بالقاتل والإرهابي الذي يستحق ألف اعدام كما قال رجب طيب أردوغان بنفسه مرارا. ما بين اعتقال أوجلان في العاصمة الكينية نيروبي قبل 14 عاما وهو بقبضة الإستخبارات التركية، مقيد اليدين، ومعصوب العنيين تحت تأثير المخدر الذي تم من خلاله اختطافه، وهاجس إعدامه يخيم على مؤيديه ومنتقديه معا...
بين ذلك التاريخ واليوم حيث يزوره رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان في السجن ويمضي معه يومين كاملين على أمل التوصل إلى وثيقة لحل القضية الكردية سلميا، بين التاريخين هدرت دماء غزيرة وأرهقت أرواح كثيرة وبكت الأمهات من الجانبين وخسرت تركيا مليارات إضافية (تقدر التقارير التركية تكاليف الحرب ضد حزب العمال الكردستاني منذ عام 1984 بخمسمائة مليار دولار) ولم يستطع أي جانب تحقيق هدفه بالقضاء على الأخر ( توعد العديد من القادة الأتراك من السياسيين والعسكريين معا بالقضاء على حزب العمال خلال مئة يوم )، بل على العكس تماما تعززت القناعة لدى أنقرة بأن الحل العسكري وصل إلى طريق مسدود حتى لو قصفت الطائرات الحربية باطن جبال قنديل، وحلت محلها قناعة بأهمية دور أوجلان الشخصي في الحل السلمي، فالرجل نجح وبكلمة واحدة في إنهاء اضراب مئات السجناء الأكراد عن الطعام بينما فشل في ذلك وزير العدل التركي سعد الله أرجين رغم انه زار السجناء والتقى معهم وبحث مطالبهم، كما انه بعد كل هذه السنوات تبدو جبال قنديل وكأنها محافظة تأتمر بأوامر أوجلان من معتقله، بل والرجل قادر على إنزال آلاف الأكراد إلى شوارع وساحات العواصم الأوروبية في أي وقت يشاء ...، لعل كل ما سبق يكشف حقيقة مكانة أوجلان في هرم القضية الكردية، وكيف أدار معركته من المعتقل، وكيف تحول إلى صاحب الكلمة الأولى في حل هذه القضية سلما أو تصعيدا، فهو العقدة والحل معا .
في الواقع، يمكن القول انه بعد 14 عاما من اعتقال أوجلان، أفرزت التطورات المتعلقة بالقضية الكردية معطيات على الجبهتين الكردية والتركية من شأنها إيجاد واقع يمكن عليه بناء خريطة طريق لحل هذه القضية سلميا. فعلى الجبهة الكردية تبلور تيار سلمي قوي بدعم علني وخفي من حزب العمال الكردستاني يقوده أوجلان من معتقله وقد أنخرط فيه حزب السلام والديمقراطية الكردي الممثل في البرلمان والذي يعد الجناح السياسي لحزب العمال،ويعمل هذا التيار على إعادة ترتيب أولويات المجتمع الكردي واعداده للانخراط في الحركة العامة في تركيا وفق أسس تقوم على الاعتراف التدريجي بالهوية القومية الكردية والعمل ضمن الأطر القانونية كالبلديات والاعلام والانتخابات والبرلمان ... وتحويل كل ذلك إلى ضغط داخلي وخارجي لإجبار المؤسسة الحاكمة في تركيا على الاعتراف بهم، ولعل مثل هذا الخيار يحظى بموافقة أمريكية وأوروبية ودعم مباشر من قيادة إقليم كردستان العراق التي تقوم بدور الوساطة بين الجانبين لإنجاح جهود الحل السياسي. وعلى الجبهة التركية برز تيار سياسي بزعامة أردوغان ويقف خلفه الأوساط الاقتصادية والعديد من الأوساط الثقافية والاجتماعية والحزبية يدعو إلى إيجاد حل سلمي للقضية الكردية وذلك من خلال إجراء المزيد من التعديلات الدستورية والقانونية تقر بالهوية الثقافية للأكراد وتفسح في المجال أمامهم لممارسة شكل من إشكال الحكم المحلي، بما يؤدي كل ذلك إلى تحقيق الاستقرار في البلاد وامتلاك المزيد من عوامل القوة وتحقيق التنمية والنمو، بما يساعد كل ذلك على تحقيق المزيد من الدور والنفوذ على المستويين الإقليمي والدولي ولاسيما لجهة كسب الأكراد في عموم المنطقة إلى دائرة التأثير السياسي التركي. دروب السياسة والتطلعات المتبادلة بين أوجلان وأرودغان باتت كثيرة، وربما في لحظة ما تفتح الطريق أمام إيجاد حل سلمي للقضية الكردية على شكل فرصة تاريخية بنهكة ( ثورات الربيع العربي ) التي أكدت ان الحرية مطلب لا حياد عنه مهما طال الزمن.
أردوغان يريد من أوجلان تلك الكلمة السحرية التي تدفع بالمقاتلين الأكراد من حزبه إلى ترك السلاح والمساهمة الكردية في تمرير الدستور الجديد الذي سيصله إلى الجلوس في قصر تشانقاي الرئاسي، فيما أوجلان يريد منه كسر جدران ايمرالي ليكون حرا ومنتصرا في هيئة مانديلا الكرد ويتوج ذلك بحل سلمي للقضية للكردية يعيد صوغ السياسة والجغرافية كرديا. تطلعات صعبة بل ربما مستحيلة في نظر البعض، لكن المعلومات التي تتسرب من سجن إيمرالي ليست سوى حروف قصة تكتب وتحتاج إلى المزيد من الحبر والتفكير بدلا من الدم والرصاص. [email protected]