عندما بدأت الأزمة السورية أنتهجت تركيا في البداية أسلوب القوة الدبلوماسية الناعمة لتغير النظام في دمشق، قبل أن تذهب إلى المطالبة برحيل النظام وتحديد مهل زمنيه له، وأحتضان المعارضة السورية السياسية والمسلحة على أراضيها، اعتقادا منها بأن مثل هذا الدور سيحظى بمساندة أمريكية مباشرة، على أمل أن يعزز كل ذلك من دورها في رسم المشهد السوري المستقبلي بل والمنطقة عموما خاصة بعد أنتصار الثورة في تونس ومصر.
اليوم وبعد مرور قرابة سنتين على بدء الأزمة السورية لا تبدو صورة العلاقة التركية - الأمريكية بخصوص هذه الأزمة على هذا النحو، وفي العمق فان التحولات التي شهدتها الأزمة السورية بدأت تهدد العلاقة بين أنقرة و واشنطن، حيث تبدي الأولى خيبة شديدة من الموقف الأمريكي وتحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية بقاء النظام السوري كل هذه المدة، فيما تبدي الثانية الإنزعاج الشديد من الموقف التركي ولاسيما لجهة المساهمة في زيادة نفوذ الجماعات الجهادية المسلحة وخاصة جبهة النصرة المصنفة في تنظيم القاعدة.
في الواقع، من يدقق في مسار العلاقة بين الجانبين لجهة دور الأزمة السورية، لا بد ان يتوقف عند المعطيات التالية :
1 ndash; ان تركيا ترفض أي حوار بين المعارضة السورية والنظام، كما برز من رفض أردوغان وأوغلو للمبادرة التي طرحها رئيس الائتلاف الوطني السوري معاذ الخطيب، فيما على العكس تؤيد واشنطن هذه المبادرة وغيرها، وتحاور موسكو من أجل التوصل إلى مخرج سياسي للأزمة يفضي إلى التغير المنشود، وقد كان لافتا انتقاد المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية فيكتوريا نولاند عندما وصفت موقف أنقرة من مبادرة الخطيب بالمعرقل والمحرض.
2- ان حكومة حزب العدالة والتنمية بنت سياستها المستقبلية تجاه منطقة الشرق الأوسط في المرحلة المقبلة على أساس إسقاط النظام السوري والتطلع إلى بناء منظومة إقليمية تقوم على تؤليفة من حكم حركات الأخوان المسلمين في دول المنطقة، وهذا الأمر حسب سياسة أردوغان يقضي إيصال الأخوان المسلمين في سوريا إلى السلطة حتى يكتمل المشهد، وهي في سعيها لإسقاط النظام السوري دعمت الجماعات الجهادية المسلحة التي تعاظمت دورها، فيما هذا المسار بات يشكل قلقا لواشنطن التي تدخلت مرارا للحد منه، سواء عبر دعم تشكيل الائتلاف الوطني للحد من نفوذ الأخوان المسلمين من خلال المجلس الوطني، أو بوضع جبهة النصرة على قائمة الإرهاب، أو من خلال الحد من تدفق الأسلحة إلى هذه الجماعات والتأكيد الدائم على الطابع المدني التعددي الديمقراطي للدولة السورية في المرحلة المقبلة .
3- ارتباطا بالملف السوري ترى أنقرة أن واشنطن لا تقوم بما هو مطلوب منها إزاء سوريا والعراق، فهي ترى أنها تخلت عن العراق لصالح إيران الحليف الأكبر للنظام السوري، فيما سياستها تجاه الأزمة السورية تقوم على حسابات لها علاقة بإسرائيل وتداخل العوامل الإقليمية والدولية واعتبارات الأزمة الاقتصادية الأمريكية وغير ذلك من العوامل، في وقت كانت تأمل تركيا بأن تكون المقاربة الأمريكية للأزمة السورية مبنية على إسقاط النظام بالدرجة الأولى، نظرا لأن مثل هذه المقاربة تنسجم والتطلعات التركية، الا أنه من الواضح ان المقاربة الأمريكية تنطلق من الحسابات الإستراتيجية الأمريكية التي لا تتطابق في العديد من الجوانب مع التطلعات والحسابات التركية.
4- أن أنقرة تعتقد أن أسلوب الحوار لإنهاء الأزمة السورية سيجبر حكم حزب العدالة والتنمية على إعادة النظر في مجمل سياسته تجاه منطقة الشرق الأوسط، ولعل قدوم جون كيري إلى سدة وزارة الخارجية الأمريكية عمقت من الشكوك التركية هذه، وعليه بدأنا نشهد ما يشبه أزمة في العلاقات التركية - الأمريكية خاصة في ظل حديث كيري عن مراجعة السياسة الأمريكية بخصوص الأزمة السورية.
في الواقع، على الرغم من العلاقات المتينة بين أنقرة و واشنطن واستجابة الأخيرة للهواجس الأمنية التركية إزاء الأزمة السورية ، كما تجلت في الموافقة الأمريكية على نشر صواريخ باتريوت على الأراضي التركية الا أنه من الواضح أن الأزمة مرشحة إلى أن تتحول إلى قضية اشتباك بين الجانبين إذا ما أتجهت واشنطن إلى الاتفاق مع الروس على إقرار تسوية سياسية للملف السوري فيما ترى أنقرة التي قطعت علاقاتها مع النظام السوري ضرورة اسقاط هذا النظام وعليه تضغط لإفشال أي حوار معه حتى لو كان على مرحلة انتقالية تنتهي برحيل النظام سلميا. وعليه فان ملف الاشتباك أو الخلاف التركي ndash; الأمريكي على كيفية معالجة الأزمة السورية بدأ يدخل مرحلة جديدة مع الولاية الثانية لباراك أوباما، وقد كان لافتا استدعاء الخارجية التركية للسفير الأمريكي في أنقرة ريتشارد ريكياردوني على خلفية انتقاده لحكومة حزب العدالة والتنمية بسبب اعتقالها العشرات من الجنرالات وحبسهم لمدد طويلة دون محاكمة، وكذلك رد السفير الأمريكي على الطلب التركي بشأن موعد زيارة أردوغان المقررة إلى واشنطن وقوله إنها ستكون خلال سنة، وهو ما أثار غضب تركيا التي تحس في الأصل ان واشنطن لا تتعامل معها جديا بشأن ملف حزب العمال الكردستاني. في الواقع، تبدو تركيا في تعاملها مع الإدارة الأمريكية أقرب إلى انتهاج الفرصة للحصول على المزيد من الدعم الأمريكي لتعزيز دورها الإقليمي في الشرق الأوسط، فيما لواشنطن استراتيجيتها المبنية على مصالحها تجاه المنطقة حيث إسرائيل في قلب هذه الاستراتيجية.
لقد بدأ أوباما ولايته الأولى بزيارة تركيا على أمل بناء عهد جديد من العلاقات مع العالم الإسلامي وهو ما لم يتحقق، وها هو في ولايته الثانية يبدأ أول زيارة للمنطقة انطلاقا من إسرائيل، وبين الزيارتين دلالات وتحولات، ربما تتطلبان من تركيا إعادة النظر في مفهوم العلاقة مع واشنطن، والنظر إليها لا بوصفها مجرد داعم لبناء دور تركي في المنطقة وأنما التعاطي معها على أساس اختلاف المصالح والرؤى أيضا، فالصراع في سوريا بات يتجاوز مسألة تغير النظام إلى كيفية ترتيب المشهد السوري في جغرافية تتجاذبها الصراعات والمصالح الإقليمية والدولية.
التعليقات