من مفكرة سفير عربي في اليابان
ناقشنا في الجزأين السابقين من المقال التناقض التي تعيشه مجتمعاتنا الشرق اوسطية بين ثقافة الدمار الموت وبين ثقافة الازدهار والشباب الخالد. وقد طرحنا بعد الأحداث الدامية في الجزائر الأسئلة التالية: ما الذي يحاول المتطرفون تحقيقه بقتل الأبرياء، بالإضافة لقتل أنفسهم؟ أليس من الغرابة أن تصر شعوب على ثقافة الموت، بينما تبحث شعوب اخرى عن حياة الازدهار والشباب الخالد؟ ألم تؤكد ثقافة ديننا الحنيف بأن نعمل لدنيانا وكأننا سنعيش للأبد، ونعمل لاخراتنا وكأنما سنموت في الغد؟ كما عرضنا سابقا المقال الذي نشره البروفيسور بيتر سنجر بصحيفة اليابان تايمز وبعنوان، النضال للعيش حتى سن الألف سنة، والذي ناقش فيه الأسئلة التالية: هل الوقاية من أمراض الشيخوخة خير من علاجها؟ أليس مثقال وقاية خير من قنطار علاج؟ وهل ممكن ذلك؟
لنتذكر عزيزي القارئ بأن فكرة الشباب الخالد ليست اختراع جديد، فهناك الكثير من الأساطير التي تحدثت عن محاولة الحضارات القديمة وقاية ملوكها من الموت، وتعويضهم بشباب دائم. فقد ذكرت المؤلفات الصينية القديمة قصة لأحد أباطرة الصين حاول أن يعيش حياة أبدية، فأرسل بعثة استكشافية مؤلفة من مجموعة من الشباب والشابات في سفينة لأعماق المحيط، للبحث عن لؤلؤة مدفونة، لاعتقاده بأنها ستطيل عمره. ولم يفلح البحارة من العثور على لؤلؤة الحياة الأبدية، ولكنهم اكتشفوا جزر اليابان، التي يقطنها أناس اشتهروا بطول العمر.
كما تحدثت كتب التاريخ عن البحار جوان بونس دي ليون، الذي قاد بعثة استكشافية في القرن السادس عشر لجزر الكاريبي، للبحث عن ينبوع الشباب، الذي يقي شرب ماءه من الشيخوخة. كما نقلت الكتب القديمة عن حضارات حاولت اطالة عمر ملوكها، وذلك بنومهم مع العذارى وامتصاص دمائهم. وتعتقد الأديان السماوية بأن الإنسان يتجدد شبابه بعد الموت قبل دخوله الجنة. كما ذكر في الكتاب المقدس، الإنجيل، شخص يسمى ميتهيسلاه، وهو أحد أحفاد ادم عليه السلام، قد عاش تسعمائة وتسعة وستين عام. ويتساءل البعض: إذا تمكن ميتهيسلاه أن يعيش حوالي الإلف عام في ذلك الوقت، فما الذي يمنع إنسان الألفية الثالثة أن يعيش شباب خالد؟ فلنعيد السؤال مرة أخرى لعزيزي القارئ بصيغة أخرى: هل من الممكن للتكنولوجية الحديثة أن توفر للإنسان هذا الشباب؟
يعرف الخلود بفترة الزمن التي لا تنتهي، ومن المعروف بأن الإنسان يصبح خالدا بما يتركه ورائه من أعمال خالدة. كما تخلد مورثاته بالتزاوج لتنتقل من جيل إلى جيل بتكاثر مستمر لخلايا التوالد، النطفة والبويضة. ومن الممكن اليوم، وخاصة بعد أكتشاف البروفيسور الياباني ياماناكا الحاصل على جائزة نوبل للطب في العام الماضي، أن نحول الجلد لخلايا جذعية جنينية، التي ممكن تحويلها بعد ذلك إلى حيوان منوي وبويضة، ومن الممكن أيضا المحافظة عليها بالتجميد للاستفادة منها لتكوين جنين جديد. فبذلك يعتقد العلماء بأنه قد يكون من الممكن اليوم المحافظة على خلايا الإنسان لينبعث من جديد من خلال خلاياه الجذعية. والجدير بالذكر بأن ديانة الشنتو اليابانية تعتقد بخلود الإنسان من خلال روحة التي تبقى لتحوم بين الجبال والغابات والأنهار، ولتدخل أجسام حية جديدة. كما حاول قدماء المصريون تخليد ملوكهم وذلك بتحنيط أجسامهم. ويبقى السؤال المحير هل فعلا من الممكن أن يخلد الجسد حيا؟
تهتم مفاهيم الطب الشامل بالجسد والروح، بينما يركز الطب المعاصر على الجسم المادي، والذي يحتوي على مجموعة من الأعضاء، والمكونة من وحدات صغيرة، تسمى بالخلايا. ويعرف الطب الحديث موت الجسم بتوقف الأبدي لوظائفه الرئيسية كالجهاز العصبي والقلب والتنفس، وتتوقف وظائف هذه الأعضاء بموت خلاياها. والخلية هي المصنع الذي يوفر لكل عضو من أعضاء الجسد ما يحتاجه من الغذاء لتأدية وظائفه بإتقان. وتحتوي الخلية على مصنع صغير للطاقة يسمى بالميتروكوندريا، يقوم بإنتاج الطاقة التي تحتاج لها أعضاء الجسم المختلفة لأداء وظائفها، وذلك بتفاعل السكر مع الأكسيجين، ليكون وحدات حرارية تخزن في الخلية بشكل مواد كيماوية تسمى بال quot;ايه تي بيهquot;. كما توجد مصانع أخرى لصناعة مواد بروتينية مختلفة يحتاجها الجسم لتغذيته ولأداء وظائفه. ويسيطر على عمل الخلية مورثات تشبه عصيات، توجد على طرفيها لولب خيطي صغير، يسمى بالتيلومر، وهو المسئول عن عمر الخلية. وتبدأ شيخوخة الخلية حينما يقصر طول التيلومر، ويختفي تدريجيا، وبذلك تتوقف المورثات عن سيطرتها على وظائف الخلية، ليؤدي ذلك لتوقف أنتاج الطاقة والمواد الغذائية اللازمة، مما يؤدي لتراكم السكر والكولسترول في الدم مع تجمع المخلفات والسموم في داخل الخلية، فيشيخ الجسد وينتهي بالموت. ويبقي السؤال لعزيزي القارئ: ما هي الأسباب التي تؤدي لتلف تيلومر المورثة؟
لقد قام العلماء بكثير من الأبحاث للجواب على هذا السؤال، واعتمدوا على تجارب مخبريه لحيوانات صغيرة، وبالأخص الفئران. وقد أنشئت مؤسسة عالمية سميت بمؤسسة ميتهيسلاه الخيرية للأبحاث المضادة للشيخوخة، وتمنح هذه المؤسسة جائزة سنوية، سميت بجائزة فأر الميتهيسلاه. وتمنح هذه الجائزة للباحث الذي يطيل عمر فأر المختبر لعمر لم يسبق له مثيل. وتنقسم هذه الجائزة لجزأين، أحدهما يتعلق بإطالة عمر الفأر، والأخر بالمحافظة على شبابه. وقد تمكنت الأبحاث العلمية من زيادة متوسط عمر فئران المختبر من ثلاثة سنوات إلى الخمس سنوات بالاعتماد على الحمية الغذائية. ويتعلق هذا العلاج على إيجاد توازن بين أقل كمية أكل لازمة لإطالة عمر الفأر، بدون أن تؤدي لمجاعته وموته. وقد أكتشف الدكتور ديفيد سنكلير، الأستاذ بجامعة هارفارد، بأن سبب إطالة العمر بالحمية الغذائية هو الجينات التي تصنع مادة بروتينية تسمى quot;سيرتوينزquot;، التي تسيطر على وظيفة مصنع الطاقة في الخلية المسمي quot;الميتوكوندرياquot;، والذي ينشطها مادة تسمي quot;الريزفيراترولquot;، وهي مادة موجودة في بعض المواد الغذائية والمشروبات .
وقد كتبت مجلة الايكنوميست البريطانية مقالا بعنوان القضاء على الشيخوخة، وكيف يمكنك أن نعيش للأبد. وتساءلت المجلة هل من الممكن أن يطيل الطب عمر الإنسان؟ وإذا أمكن ذلك، فكيف، وما هي الكلفة؟ ولماذا أصلا يشيخ الإنسان؟ وهل من الممكن أن نعتبر الإنسان كالآلة نستطيع تغير قطع غيارها كلما تلفت، لتستمر العمل والإنتاج عبر السنين؟ وهل من الممكن أن نصل لمرحلة تكون قد جددت جميع قطع غيار الإنسان بقطع جديدة؟ وقد يبقى سؤال اخر: هل ستصل الآلة البشرية لمرحلة نتساءل فيها، هل هناك جدوى من إصلاحها؟
لقد حافظ الخالق جل شأنه على بقاء الكائنات الحية في الطبيعة بخلق الية التكاثر. فخلود البقاء شيء حتمي بين النبات والحيوان والإنسان، وذلك بتوفر صيغ مختلفة للتكاثر لتنتقل المورثات والجينات من ذرية لأخرى عبر العصور. فذرية الإنسان مستمرة منذ ادم عليه السلام. ويحتوي جسم الإنسان على نوعين من الخلايا، وهي خلايا التكاثر الخالدة، وخلايا الجسد الفانية. فخلايا التكاثر، وهي النطفة والبيضة، تنتقل من جيل لآخر، بينما تموت خلايا الجسد الأخرى. ويعتقد دكتور أوبري دي جري، الباحث في جامعة كمبريدج، بأن هناك سبعة أسباب للشيخوخة الخلايا، وهي: فقدان الخلايا وتحللها الذاتي، وطفرات نواتها الجينية، والطفرات الجينية في الميتوكوندريا، وتراكم المخلفات بداخل الخلايا، وخارجها، بالإضافة لتراكم السموم القاتلة. وتزداد هذه المخلفات والسموم بزيادة الأكل والضغوط الحياتية، وبقلة الرياضة العضلية والذهنية. فمن المعروف بأن الرياضة العضلية والذهنية تؤدي لإفراز مواد هرمونية تنعش الخلايا الجسمية والعصبية، فتكبر حجمها، وتزيد من وظائفها، لتمنع شيخوختها.
والميتوكوندريا هو مصنع الطاقة في الخلية الذي يقوم بحرق السكر بتفاعله مع الاوكسجين لإنتاج الطاقة، وأحد التحديات التي يواجهها هذا المصنع الصغير هو انشطار شحنة الكترونية سالبة من الأكسجين. وتسمى هذه الشحنات السالبة بالفري راديكلز أي الجذريات الحرة. وتجول هذه الجسيمات الصغيرة في الدورة الدموية، وتغزو الخلية، لتتلف لولب التلومير والجينات الموجودة على مورثاتها، فيضطرب العمل وتتراكم المخلفات، لتشيخ الخلية. ولو استطعنا أن نطهر الجسم من هذه الجذريات الحرة، سنستطيع أن نحمي الخلايا من تلف الشيخوخة. وتوجد الكثير من المواد التي تبطل مفعول هذه الجذريات السامة وتخلص الجسم منها، وهي موجودة في الكثير من الفواكه والخضروات. وباختصار شديد، لتأخير الشيخوخة نحتاج لقلة الأكل، وجودة نوعيته، بكثرة تناول الخضروات والفواكه، وقلة أكل اللحوم الحمراء والدهون والسكريات، مع تناول كميات كبيرة من الماء، بالإضافة لممارسة الرياضة اليومية، وتخفيف الضغوط الحياتية.
وقد بينت الابحاث العلمية إمكانية استبدال الخلايا المسنة بخلايا جديدة يانعة، وهي الخلايا الجذعية المعروفة بالاستم سلز. وتتشكل الخلايا الجذعية عادة من اندماج الحيوان المنوي مع البويضة، ليؤدي هذا الاندماج لتشكل خلايا المضغة التي تستطيع التكاثر بسرعة والتحول لأية نوع من خلايا الجسم. فلو استطعنا حقن هذه الخلايا في أحد أعضاء الجسم كالكبد والبنكرياس والقلب وحتى المخ يمكن أن نضيف خلايا جديدة يانعة وطويلة العمر. وتتكاثر هذه الخلايا اليانعة بداخل العضو وتتميز فتطور وظائفه، لترجعه عضوا يانعا من جديدا. فباختصار يمكن مستقبلا أن نغير أعضاء الجسم المسنة بأجزاء جديدة كل فترة معينة من الزمن. والخلايا الجذعية موجودة في مضغة الجنين وتتعرض المضغة للتلف عادة بأخذ بعض من خلاياها الجذعية. لذلك تمكنت الابحاث العلمية الجديدة من اكتشاف طرق جديدة لتكوين الخلايا الجذعية من خلايا الكهلة، كخلايا الجلد، بحقنها بأربعة من الجينات الجنينية. وقد تفتح هذه الاكتشافات الجديدة الطريق للسماح بأبحاث الخلايا الجذعية، والتي ستخلق ثورة جديدة في عالم الطب. وللمحافظة على الشباب بالوقاية الصحية، نحتاج لاستمرارية الأبحاث المضادة للشيخوخة، وإذا استطاع الإنسان إن يطيل عمره عدة سنوات اضافية، فقد يكتشف العلماء طرق جديدة للمحافظة على شباب دائم. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في طوكيو