مع دخول الثورة السورية سنتها الثالثة، يتبيّن اكثر فأكثر أنّ الشرق الاوسط مقبل على تغيّرات كبيرة وذلك بغض النظر عن صمود الكيان السوري او انهياره. ستشمل هذه التغيّرات اعادة رسم حدود دول المنطقة على الرغم من كلّ ما قيل ويقال عن أنّ هذه الحدود وجدت لتبقى.
كان يمكن القول أنّ هذه الحدود وجدت لتبقى لو عرف العرب اهمية سايكس- بيكو ولو ادركوا، في الوقت المناسب، أن الحدود بين الدول ليست اسوارا شائكة. على العكس من ذلك، يمكن للحدود ان تستخدم في مجال خلق مساحات لقاء بين شعوب المنطقة وتعاون في العمق في ما بينها، وصولا الى ما كانت كانت عليه الحال ايام الدولة العثمانية...
كان اتفاق سايكس- بيكو فرصة لا تعوض امام الانظمة العربية التي خذلت شعوبها، تارة باسم القومية العربية وتارة اخرى باسم البعث وتارة اخيرة باسم الدين في الجوانب السيئة منه. رحم الله رجلا عظيما كان اسمه الحسين بن طلال رفض الاستسلام للمزايدين باسم الدين بعدما تصدى للمزايدين باسم العروبة احيانا واليسار في احيان اخرى. قال للذين ينادون بـquot;العودة الى الاسلامquot; ان quot;الاسلام امامناquot;، اي ان الاسلام دين متطور ومتقدم وعصري. أي أنّ على الذين يدعون التمسك به حاليا ويستخدمونه من اجل الوصول الى السلطة ولا شيء آخر غير السلطة، القيام بخطوات كبيرة من اجل اللحاق به وادراك جوهره.
اختصر الحسين المشهد العربي منذ زمن طويل. ابلغ اهل المنطقة ما هم مقبلون عليه ورحل باكرا بعدما وضع بلاده على طريق التطوّر والحداثة، عبر نجله البكر الملك عبدالله الثاني، في يد امينة.
ما نشهده اليوم في سوريا يتجاوز فشل نظام معيّن بالمحافظة على بلد. انه نهاية لمرحلة كان مسموحا فيها لرجل المتاجرة ببلده وشعبه والقضية الفلسطينية والعرب والعروبة والممانعة والمقاومة...وكلّ ما وقعت يده عليه. كان حافظ الاسد مؤسس النظام السوري الحالي قادرا حتى على المتاجرة بصدّام حسين وبعثيته وعبثه ورعونته، فاستخدمه افضل استخدام في ابتزاز العرب وغير العرب والاميركيين. كان بالفعل عبقريا في لعبة الابتزاز التي بلغت اخيرا نهايتها.
وسط كلّ ما جرى ويجري في سوريا، هناك الشعب السوري. هذا الشعب هو الثابت الوحيد في المعادلة المرتبطة بالثورة السورية، بل بالمعادلة السورية كلّها. فاجأ الشعب السوري الجميع. اول من تفاجأ بالشعب السوري كان النظام نفسه الذي اعتقد في مرحلة ما أنه استطاع القضاء على هذا الشعب.
بلغت العنجهية بالنظام أنه بات مقتنعا بأنّ الشعب السوري انتهى في العام 1982 وذلك مع تدمير حماة على رؤوس اهلها. لم تنته حماة. لم يتعلّم السوريون الدرس. ظهر في السنوات 2011 و2012 و2013، أن حماة ما زالت تقاوم.
بعد العام 2005 واغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، ثم اضطرار الجيش السوري الى الانسحاب من الاراضي اللبنانية، ساد الاعتقاد أنّ النظام السوري لا يعرف شيئا عن لبنان. اكتشف العالم، بمن في ذلك العرب، أنّ النظام السوري جاهل بلبنان وتركيبته وطوائفه ومناطقه.
كان الدليل على ذلك أنّه لم يقدر النتائج التي ستترتب على جريمة في حجم التخلص من رفيق الحريري، حتى لو لم يتول بنفسه عملية تفجير موكب الرجل الذي بنى لبنان الحديث وعاصمته واعادهما الى خريطة الشرق الاوسط.
كان طبيعيا أن يكون رئيس مثل بشّار الاسد، لديه ميل واضح الى تبسيط الامور، عاجزا عن استيعاب ما يجري في لبنان. وكان اكثر من طبيعي أن يكون بشّار الاسد غائبا كلّيا عن هموم الشعب اللبناني، خصوصا أنه لم يتعاط سوى مع اسوأ نوع من اللبنانيين الذين كانوا اختصاصيين في فنّ ممارسة العمالة وكيل المديح لشخصه.
ما لم يكن طبيعيا أن يكون الرئيس السوري، وهو لا يعرف الآن أنه صار رئيسا سابقا في اليوم الاوّل لاندلاع الثورة السورية، بعيدا كلّ البعد عن هموم السوريين ومشاغلهم الحقيقية. تبيّن بكل وضوح أن الشعب في عالم والنظام في عالم آخر. وجود مثل هذين العالمين كان السبب الرئيسي لاندلاع الثورة التي لن تغيّر سوريا فحسب، بل ستغيّر وجه الشرق الاوسط ايضا.
هناك شرق اوسط ما قبل الثورة السورية وشرق اوسط ما بعدها. الشيء الوحيد الاكيد بعد دخول الثورة السورية سنتها الثالثة ان سوريا التي عرفناها في السنوات الخمسين الماضية، اي منذ وصول حزب البعث الى السلطة في الثامن من آذار- مارس 1963، لم تعد موجودة. قضى السوريون على النظام. قضوا عليه، على الرغم من وقوف العالم، على رأسه الولايات المتحدة متفرجا. هل ينجحون الآن في اعادة بناء سوريا؟ هذا هو السؤال الكبير.
الاهمّ من ذلك كلّه، كيف سيكون الشرق الاوسط في مرحلة ما بعد انتصار الثورة السورية؟
من الصعب الاجابة عن مثل هذا النوع من الاسئلة. الا أنّ لا شيء يمنع من الجزم منذ الآن أن الشرق الاوسط الجديد، بما في ذلك لبنان، سيكون افضل مما كان عليه عندما كان النظام السوري يتحكّم بدمشق وحلب وحمص وحماة واللاذقية وكلّ مدينة وقرية سورية.
للمرّة الاولى هناك امل بمستقبل افضل في الشرق الاوسط كلّه. للمرّة الاولى هناك امل بأن تكون الحدود بين سوريا وكلّ من لبنان والاردن وحتى تركيا مناطق التقاء بين الناس وليست جدارا يفصل في ما بينهم.
في هذا الكلام الكثير من التفاؤل، بل مبالغة في التفاؤل، خصوصا ان خطر تفتيت سوريا قائم.
لكنّ ما لا بدّ من استعادته في كلّ لحظة، انطلاقا من التجربة التي مر بها لبنان، ان لا وجود لما هو اسوأ من النظام الطائفي الذي لا يزال يحاول المتاجرة بسوريا والسوريين مثلما تاجر في الماضي بفلسطين والفلسطينيين ولبنان واللبنانيين.
في لبنان، على سبيل المثال وليس الحصر، لم يكن مسموحا لاي طائفة او حزب الاّ ان يكون منقسما على نفسه. من يرفض ذلك، مصيره محسوم. من كمال جنبلاط الى رفيق الحريري وباسل فليحان وسمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني ووليد عيدو وبيار امين الجميّل وانطوان غانم...وصولا الى وسام عيد وفرنسوا الحاج ووسام الحسن...مرورا ببشير الجميّل والمفتي حسن خالد ورينيه ومعوض ومئات، بل آلاف آخرين.
اوليس التخلص من نظام من هذا النوع بداية جيدة توفّر بعض الامل؟
التعليقات