quot;صرت شيوعيquot; هذا ما قاله لي احد اقاربي ذات مرة لمجرد انه سمع مني قناعات تخالف السائد.
الامر نفسه يتكرر مع الكثيرين، ما زالت اذكر صديقي طارق الذي وصفناه بالشيوعي عندما كنا اسلاميين، فقط لأنه يطرح وجهات نظر quot;ما بعد حداثيةquot; وليست ماركسية.
لم يأت هذا الاستخدام من فراغ، بل حددته خلفيات واسباب عديدة، اهمها ان الشيوعيين في العراق كانوا من جانب مشككين في اغلب الثوابت الدينية والاجتماعية ومن جانب اخر هم في نظر المجتمع اهل ثقافة، عكس البعثي الذي لم يعرف عنه ذلك.
الاحترام الضمني للشيوعيين لا يخفي خشية منهم. تناقضات طبيعية في مجتمع يراهم مهددين لقيمه وثقافته وثوابته، وفي المقابل اعطى شباب هذا المجتمع الفاقد للبدائل يوما ما، الامل بالتغيير واستعادة الذات وتحسين وضع المجتمع.
ظلت quot;انت شيوعيquot; حاضرة رغم كل متغيرات العالم وتحولاته من حولنا. ولكن لم يبق الحزب يعطي الامل للشباب كما اعطاهم في عهد سابق. البريق اختفى، سلبته عنهم المرحلة التاريخية المستجدة، الشباب تغير، طموحاته ومخاوفه واولوياته اختلفت.
بدا الحزب الشيوعي لبرهة وكأنه استعاد المبادرة، عندما سجل حضور شبيبته المهم في التظاهرات غير الطائفية قبل عامين. غير ان المشهد بالفعل كان اكبر منه، سرعان ما فقد المبادرة وسط زحام المخاوف العراقية وغياب الاستراتيجية وضعف امام السلطة وقوة حضورها وتأثيرها. عاد لمخاوف ذلك الكيان السياسي التاريخي الذي عانى من دهاء السلطة او بطشها.
عقد من السنين وquot;اليسارquot; العراقي يحتفل علانية بذكرى تأسيس اهم احزابه، الجلاد لم يعد قادرا على منعه، ها هو يستذكر مجددا نضالاته. فماذا عن الحاضر والمستقبل؟.
ان روح الدعوة للدولة المدنية التي يملكها الشيوعيون، واهميته باعتباره قوة سياسية ضاغطة، ليست كافية من حزب يملك كل هذا التاريخ.
مشكلة الشيوعي العراقي ليست في كونه حزبا شموليا كما كانت قبل عقدين او ثلاثة، عقائده لم تعد تخيفنا. الايديولوجيا تكسرت فوق رؤوس حامليها، والايمان بها يبدو التزاما تراثيا ليس الا، فلا وجود للشيوعية كعقيدة شمولية. مشكلته الرئيسية هي انه حتى الان ما زال حزبا شيوعيا. هذا لا يعني ان يغير اسمه، بل ان يتصالح مع الناس ويخلق نظرة جديدة تجاهه عبر خطابه وبرامجه.
الناس تقول quot;خطية الشيوعيين شسوا بيهم البعثquot;، هذا لا يكفي كي يؤمن المجتمع بتيار سياسي، بل يخلق نوعا من التعاطف، وهو شيء مختلف عن القناعة السياسية. المطلوب قراءة جديدة للمجتمع العراقي، التوغل في بنيته والبحث عن مجساته، لتحقيق تلك القراءة، ومن ثم خلق خطاب وبرنامج يقترب منها.
ليس المهم ان يعلن الشيوعيون رفضهم للطائفية والفساد والمحسوبية والمحاصصة، الناس تسمع هذا من الجميع. المهم هو ان يقتنع الناس بالبرنامج المقدم لمحاربة الوضع الراهن. كيف يكون ذلك ومتى، هذا ما يجب التنقيب عنه قبل أي شيء. والجهد الذي يقوم به حزب لا يملك قاعدة شعبية ويعاني من بعض الاتهامات ذات الطابع الفكري، اكبر بكثير من جهد حزب اخر يمتلك علاقة متصالحة تفرضها معتقدات المجتمع او عاداته وتقاليده.
احتفلت الشيوعية لعقد، لكنها لم تستثمر أي فرصة، فما فائدة ان يتعدل قانون الانتخابات ليصعد عضو او اثنان او ثلاثة لمجلس المحافظة هنا وهناك، او لمجلس النواب. لقد ملك الشيوعيون قبل هذه الدورة نائبين، ماذا صنعا؟. كانوا يملكون ملف كركوك، ماذا فعلوا؟. ملكوا وزيرا لدورتين، ما الذي جرى؟. لا شيء.
ايضا ان تظاهرات الطبقة المثقفة في ابو نواس والمتنبي ومهرجانات quot;وسط المدينةquot; مهمة ومفيدة، لكن هذه الشريحة في العراق لا تخلق الجماهير بل تمارس الضغط. quot;ام العبائة المتربةquot;، الحمّال، الطالب، مئات الالوف من الموظفين.. هم واقع التغيير الفعلي. وأي حزب سياسي يفتقر لقناة تخاطب مع هذه الشرائح لن يكون قادرا على فعل شيء كبير، وان فعل سيكون الفعل بحدود ما يحصل: الضغط عبر النخب المثقفة التي تشترك مع الشيوعية في مطلب الدولة المدنية.
مشهد مفرح ان يحتفل الضحية بعيده علانية، ويسترق الجلاد النظر اليه بحسرة بعد ان احتفل طويلا بالسلطة. الا ان الامر لا يعدو اكثر من كونه شعورا معنويا.
التعليقات