بكى العرب ولم يذرف اصحاب الدار الدموع. مفارقة العراق التي عاشتها المنطقة عندما بدأت القوات الامريكية عملياتها العسكرية عام 2003.
ثنائية quot;المفارقةquot; هذه لم تكن في الشارع فقط، بل على مستوى النخبة، سجال كنعان مكية المبتهج بما جرى مع ادوارد سعيد المكتئب، يعبر عن الانقسام الحاد بين الجار وذي الدار.
بعد عقد، لم تعد الامور كما كانت، حتى المفارقة انقلبت، الآخر الذي رفض التدخل الامريكي في العراق، يستجديه في بقاع عربية اخرى، والعراقيون الذين اعتقدوا السعادة، تكسرت احلامهم على صخرة الواقع الصلبة.
قبل عقد، لم يفكر أغلب العراقيين بالبدائل. انصب الطموح على الخلاص والتعامل مع أي بديل على انه افضل من سوء الحصار وشخص الدكتاتور. الحال ذاته يظهر في اكثر من بلد عربي باحث عن الخلاص: quot;مهما كان القادم فهو افضل من الحالquot;.
لم تكن النخبة العراقية مختلفة عن واقع شعبها، الظرف الضاغط واحد، والتفكير العميق لم يسعف احدنا، انها قلة الخبرة، وحجم المعاناة الكبير. وهناك الاحلام الخاطئة بسبب المقارنات غير الدقيقة بين الحالة العراقية وحالات اخرى كاليابانية.
كان يدور الحوار بيننا قبل سقوط النظام حول النماذج العالمية التي حققتها الولايات المتحدة، امثلتنا اليابان وكوريا الجنوبية والمانيا الغربية، وهي بلدان احتلتها امريكا وحققت فيها انظمة سياسية واقتصادية نموذجية. مثل هذا التصور والمقارنات لا تبتني على ارضية سليمة، ولا معطيات متكاملة، بل هي مجموعات مقارنات متسرعة.
لم يكن امام العراقيين منذ فشل انتفاضتهم عام 1991، سوى خيارات محدودة. الخراب لم يصب البنية التحية فقط، بل ان البنية الاجتماعية تعرضت للتخريب بفعل حصار خارجي انعدم نظيره في التاريخ الحديث، والانسان وجد نفسه امام سياسة تسليب داخلية ممنهجة لأقل حقوقه.
تحقق من الحلم بدايته فقط، سقط الدكتاتور وفُك الحصار، ليجد العراق نفسه امام عقد ازمات من نوع جديد، اهمها: المحاصصة، الطائفية، الفساد، الارهاب وكل اشكال العنف الاخرى، واضيف لاحقا، المخاوف من عودة الاستبداد. والى جانب هذه الازمات هناك مشكلات اعم من كونها مشكلة سلطة ودولة، ترتبط بالمجتمع وامراضه.
وفي قبالة هذه المشكلات يوجد تياران، الاول مستفيد منها، غالبا ما يروج بالضد منها اعلاميا، ويتمسك بها عمليا، كونها تعطيه فرصة البقاء، والاخر يقف بالضد منها، ويقدم تصورا للحل تلو الاخر علاجا لها.
غير ان التصورات الموجودة حتى الان لا تعدو اكثر من كونها تشخيصا للواقع ودعوة لتغييره. مثلا، في كل مؤتمر يقيمه الحزب الشيوعي، اسمعهم يتحدثون باسهاب عن ضرورة وضع حد للطائفية كمعالجة لبناء الدولة، هذا جيد. الا ان الشعب كله يتحدث بهذه الطريقة، الطائفيون ايضا يقولون ان الطائفية هي سبب المشكلة في العراق، السؤال: كيف يتخلص العراق منها وهي تضرب اطنابها ليس في جسد الحياة السياسية فقط، بل داخل البنية الاجتماعية؟.
الجميع يؤكد اهمية مكافحة الفساد، حتى الجهات المتهمة به تقول انه ينخر جسد البلاد، بينما المهم كيف ينتهي هذا الوضع. ايضا، يتسابق المتخاصمون على تداعي المصالحة، ولا يملك اكثرهم تصورا عن كيف ومتى ومع من تكون؟!.
مخزون الشعارات العراقي كبير، كذلك المانشيتات الانتخابية والسياسية والخطابات الاعلامية و المؤتمرات، جميعها تقوم بمهمة استعراضية على انها معالجات للازمة. بينما نعاني من فقر كبير في امتلاك تصورات صريحة وتفصيلية عن شكل الحل. انهاء الطائفية هي نتيجة الحل، الاهم هو الطريق لتحقيق هذه النتيجة. شعار الدولة المدنية مرفوع منذ التغيير، الا ان اصحابه بعد عشر سنين لم يقدموا للعراق اي رؤية تحدد كيفية الانتقال نحوها.
وها نحن اخيرا، أعدنا لحلم يربط خلاصنا بنهاية فرد. قبل عقد أوهمنا وتوهمنا ان نهاية quot;الشخصquot; نهاية لأكثر الاحزان. ان القاء اللوم على فرد واحد سهل، ووضع نهايته كعلاج جذري، يكفي الكثيرين همّ التنقيب في الانفاق العراقية المظلمة.
سيرحل quot;الشخصquot; مرغما او باختياره، وسنعود مجددا نبحث عن الحلول والوصفات، حتى نكتشف خليفة اخر نعلق عليه كل الازمات، وهكذا دواليك.
الشخص ازمة تخلق الازمات، غير انه ابن لواقع مأزوم ضارب بجذوره في الارض، وببقاء هذا الواقع، يولد سواه باسم اخر. ستتكرر احلامنا، وستتكسر. ربط الحلم بالسقوط، يعني مزيدا من خيبات الامل والهزائم.
ليس quot;المازوشيونquot; من الشعب لوحدهم من يخلق المستبد، بل يخلقه ايضا خصومه، اولئك الذين لا يعيشون دونه، يضيعون، تتيه بهم السبل. يعارضون من، وكيف يتصرفون، ومن يتهمون وبماذا سيتنبؤون؟
لابد لأي دكتاتور ان يرحل، وما حصل قبل عقد هو الخيار الوحيد امام غلواء واستبداد نظام لم يعرف الرحمة وجر على العراق الكثير من الويلات. وإن تكرر الحال سيكون الخيار ذاته. المهم ان لا تعود ذات الاخطاء، عندما توقف الجميع عن التفكير بما بعد الدكتاتورية. الاحلام الكاذبة قالت ان الامور ستتجه لساحل الامان بعد ذلك.