ينظر الاسلام السياسي للدولة الدينية كهدف تاريخي، مهما تظاهر بغض بصره عنها في المرحلة الراهنة.

الخطاب المطمئن الذي استخدمته مؤخرا بعض التيارات الدينية يخفي وراءه الكثير. هناك ضرورات وحساسيات ومجتمع دولي، كلها تؤجل العودة للدعوة علانية نحو مشروع الدولة الدينية.

قرن من الزمن والاسلام السياسي ينظّر لمبدأ الدولة الدينية، قدم الكثير من التصورات والاوصاف حولها، عارض الانظمة من اجلها، واطلق احكاما قاسية على المجتمعات لأنها تتناقض واياها، وتغيير كل هذا التأسيس بخطاب هنا، وموقف سياسي فرضته الظروف هناك، امر يصعب تصديقه. لم يظهر حتى الان تأسيس جديد حول الموقف من الدولة وعلاقتها بالدين يتعارض مع ذاك التأسيس القديم، ليس هناك اكثر من مجموعة تصريحات اعلامية quot;ايجابيةquot; لا ترقى لتقديم صورة حقيقية مناقضة لتاريخ من البحث عن تطبيق الشريعة.

راشد الغنوشي المنظّر والزعيم السياسي الاسلامي التونسي، حاول مرارا منذ الانتفاضة التونسية ان يقنع الجمهور الاخر بعدم وجود تعارض بين رؤاه ومكتسبات تونس المدنية في عهد رئيسها الاسبق الحبيب بو رقيبة. كان حريصا على استعراض خطاب جديد، اتخذ مواقف علنية معارضة لدعوات السلفيين quot;الفجةquot;، كما انه بدأ مؤخرا في التنظير لعدم وجود تعارض بين الاسلام والعلمانية.

مؤخرا تسرب تسجيل لجلسة خاصة جمعت الغنوشي بشباب السلفية التونسية، ما قاله في هذا التسجيل يتناقض كثيرا مع خطابه التطميني منذ رحيل بن علي. زعيم الحركة الاسلامية التونسية اكد للسلفيين بان هدفه لا يختلف عن اهدافهم، لكنه دعاهم للصبر ولاتباع اسلوب مختلف في الدخول لمؤسسات الدولة ومواجهة العلمانيين، ظهر بعقلية المتآمر الباحث عن خطة سرية للإطاحة خصومة.

الاسلام السياسي بصيغته الاخوانية ومشتقاتها السنية والشيعية يفتقر في السنوات الاخيرة الى الصدق والوضوح، على خلاف السلفية التي تبدو اكثر صدقا منه في التعبير عن نفسها. صحيح ان السلفية تمثل ذروة التطرف وخطاب جديد للكراهية آخذ بالانتشار في المنطقة، لكن ليست هي السوء الوحيد، انما هي التعبير الاوضح عنه. انهم يمثلون رأس حربة في المعركة ضد العلمانية والمدنية والنزر اليسير الذي نملكه من الحضارة المعاصرة، غير انهم جزء من اصطفاف واسع ليسوا طرفه الفريد.

حركة الاخوان التي تحمل ذات الاسم في سوريا ومصر، وتعمل في تونس باسم حزب النهضة، وحزب الدعوة والحزب الاسلامي وامثالهما في العراق، جميعا تنتمي لمنهج المواربة والتكتيك السياسي، لأنها جميعا تيارات سياسية لا تختلف عن مجمل التنظيمات السياسية الايدلوجية السرية والعلنية التي ظهرت في القرن العشرين، عكس السلفية التي ما تزال تخلط بين المنهج السياسي والهدف السياسي.

من الصعب الوثوق بأي اعتدال داخل هذا التيار، حتى وان كان في اكثر البلدان علمانية مثل تركيا. من يؤمن بان الجنان ثمن لإقامة الحدود والعقوبات الدينية هو بلا شك سيسعى لها، وسيزيح كل من يقف في طريقه لتحقيق الهدف، فهو وكيل عن السماء في تحديد شكل الارض.

يقدم اصحاب الخطاب التطميني انفسهم كخيار اصلح من اولئك الذين يرفعون صور بن لادن وأعلام تنظيم القاعدة الذي فعل الهوايل بالمسلمين وغير المسلمين. هم بذلك يقومون بذات السلوك السياسي السابق للأنظمة القائم على مقولة quot;اما الانظمة الدكتاتورية او التطرف الدينيquot;، والذي استمر حتى نضجت ونمت وتفرعنت الحركات الدينية لتصبح بالفعل الخيار البديل. وها هي هذه الحركات اليوم تلعب الوجهين ايضا.

عندما يكذب المرء خوفا على حياته لا احد سيقول له لمَ كذبت، لكن عندما يتصل الامر بمصلحة الناس وحياتهم ومصيرهم فان الوضوح هو المبدأ الاخلاقي الوحيد المطلوب بالنسبة لمن اخذ لنفسه مكان المسؤولية وسار في طريق البحث عن الحكم.

السلوك المعاكس لهذا المبدأ الاخلاقي رفضه القران الكريم في قوله: quot;َإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَquot;.