لئن كان وصول الإسلاميين على موجة الربيع العربي إلى سدة الحكم في العديد من البلدان العربية، قد تم عبر موافقة ضمنية أو حتى quot;على مضضquot; من قبل الدول الغربية التي لطالما تحالفت مع الأنظمة التي أطاحت بها جماهير الربيع العربي، فإن وجود هذه التيارات الإسلامية على سدة الحكم في أكثر من بلد عربي له وزنه وأهميته، لا ينفي وجود عناوين وتحديات مرحلة ما يمكن تسميته بالانتقال إلى الديمقراطية، وهي من نوع نظام الحكم والتعددية وحرية الرأي والتعبير والاعتقاد، وحقوق الأفراد والجماعات، وسبل بناء توافقات وطنية حول مبادئ العقد الاجتماعي الجديد، والتسامح والعيش المشترك على قاعدة المواطنة، وبناء الشراكات والتحالفات الكفيلة بتخطي الفوضى والصراع الناجمين عن الإقصاء والتهميش.
هذه العناوين التي توافق على أهميتها وأولويتها معظم التيارات والشخصيات السياسية الإسلامية، كانت محور عمل المؤتمر الخامس لمركز القدس للدراسات السياسية في بيروت خلال الفترة من 19ndash; 21 تشرين أول/أكتوبر الجاري، وشارك فيه ستون شخصية سياسية وفكرية، من بينها أربعين شخصية جاءت من اثنتي عشرة دولة عربية، بالإضافة إلى تركيا، وخصص لتقديم قراءة ثانية للتجربة التركية (القراءة الأولى قُدّمت في مؤتمر عقد في أنقرة تحت نفس العنوان في نيسان أبريل من العام 2012)، فضلاً عن تقديم قراءات أولية في تجربة الإسلاميين حديثة العهد، بالحكم في كل من مصر والمغرب وتونس.
خلاصت واستنتاجات كثيرة خرجت من المؤتمر الذي يرتجي تصويب سياسات التيارات الإسلامية إبان وجودها في الحكم، ولا سيما على صعيد الفكر والممارسة، في ظل محاولات تيارات قومية ويسارية تصيد أخطائها وزلاتها، منها الحاجة للجمع بين quot;أصالةquot; الإسلام وquot;تأصيلquot; القيم والمبادئ الديمقراطية الحديثة في خطاب الحركات الإسلامية، وأهمية إجراء المراجعة وquot;التنظيرquot; سياسياً وفكرياً للتحولات التي طرأت على خطاب كثيرٍ من هذه الحركات، والعمل على اكتشاف quot;مواطن القدرةquot; في الفكر الإسلامي، من دون إغفال حاجة التيارات quot;العلمانيةquot; لإجراء مراجعات لتجربتها في الحكم والمعارضة، والتي أخفقت في تقديم quot;النموذجquot; وورثت العالم العربي، الكثير من المشاكل والتحديات الجسام.
بين خطاب الحركات الإسلامية وممارستها، هناك ضرورة لردم الفجوة بين quot;الشعارquot; وquot;تطبيقاتهquot;، وبذل جهد سياسي وفكري، لخلق هذا الانسجام والتجانس، من خلال الجمع بين quot;المفكرينquot; وquot;الفاعلينquot; الإسلاميين والتجسير بينهم، وتأصيل الوعي المدني والديمقراطي في خطاب هذه الحركات من جهة، وإضاءة quot;المساحات الرماديةquot; في خطابها من جهة ثانية.
ما يخشى على الحركات الإسلامية التي توصلت إلى الحكم هو تفشي نزعات الانقسام الطائفي والمذهبي (وحتى داخل المذهب الواحد) في العديد من الدول العربية، ما يبرر الحاجة إلى اعتماد خطاب جمعي وطني، يعظم المُشتركات، ويعمق البعد quot;الوطنيquot; الجامع، وهو ما يعرضه حزب العدالة والتنمية التركي كواحد من أهم الدروس لتلك الحركات والتيارات الإسلامية في العالم العربي بالذات.
وعليه، فإن بناء خطاب إسلامي ديمقراطي ومدني، يدفع بالحركات الإسلامية التي تسلمت مقاليد السلطة والحكم في دولها، للتمييز بين ما هو quot;حزبيquot; وما هو quot;دولتيquot;، فالدولة التي هي لجميع أبنائها، لا تُدار بأدوات الحزب ومنهجه وعقليته، وإن كان من حق الحزب الذي يصل للسلطة عبر صناديق الاقتراع أن يتملّك الفرصة لاختبار تجربته وإنفاذ برنامجه ورؤاه، ما يجنب هذه الأحزاب الإسلامية وخطابها موجات الهجوم من قبل التيارات الأخرى، وتتجاوز به مرحلة الأنظمة التي سبقتها وتفشل محاولات إظهارها وكأنها نسخة عنها.
ولعل من أهم المهام التي تثبت الوجه الحقيقي لهذه التيارات الإسلامية التي جاءت إلى سدة الحكم وأولها، بما يعبر عن مدنية خطابها وديمقراطيته التركيز على صياغة quot;الدساتير التوافقيةquot; التي تعكس روح quot;العقد الاجتماعيquot; الجديد بين الدولة ومواطنيها، وتحفظ حقوق الجميع وتقرر واجباتهم، وتؤسس لنظم سياسية قائمة على العدالة والمساواة والشراكة والتداول السلمي للسلطة ومبادئ الفصل بين السلطات، وتقديم تصورات أكثر عمقاً ووضوحاً، لمفهوم quot;الدولة المدنيةquot; الذي تتحدث عنه، والعلاقة بين الشرع والتشريع، وحقوق الأفراد والجماعات، بما فيها الموقف من حقوق المرأة ومشاركتها، والموقف من الجماعات الدينية والقومية والعرقية، لكي يصبح بالإمكان، تبديد حالات الاحتقان واحتواء النزاعات التي تشهدها الكثير من الدول والمجتمعات العربية.
خطاب التيارات الإسلامية ما بعد حقبة الربيع العربي لا يزال يكتسي بالغموض والضبابية في بعض الأحيان، والالتباس والتكلس في أحيان أخرى، فمرحلة quot;المظلوميةquot; التي عاشتها تلك الحركات والأحزاب الإسلامية قد ولت مع وصول بعض تلك الحركات إلى الحكم، ومن المهم التركيز على خطاب وممارسة أكثر فعالية يجعلها أكثر اعتماداً على رصيد جماهيري واستقطاب سياسي واسع، بدلاً من تكرار ذات المقولات والشعارات التي قد تنجح في إيصال أمثالهم إلى السلطة، كما فعلت معهم، لكنها لن تكفي بكل تأكيد للتدليل على صوابية خيار استمرارهم دون تلافي أخطاء قد تصل في بعض الأحيان حد quot;الخطاياquot;!
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات