انفجر مؤخرا سجال حاد بين القوى السياسية حول تصريحات السيد كوبيه، سكرتير الحزب الديجولي، عن استفحال ظاهرة العنصرية ضد الفرنسيين البيض. وسبق لحزب لوبين الشعبوي أن جعلن منذ سنوات طويلة، من استخدام هذا الموضوع إحدى ركائز حملاته الدعائية. وهذا الاستخدام السياسي للظاهرة جعل كل من يتحدث عنها في قفص اتهام اليسار ومنظمات مناهضة العنصرية وكأنه يردد دعايات اليمين الشعبوي، ويسايره ويتملقه. وهذه هي التهمة التي جابه بها اليسار السيد كوبيه إثر تصريحاته، مثلما جوبه بها من قبل كل من يردد ذلك وحتى حين تحدث عنه مثقفون وساسة يساريون من أمثال برنارد كوشنر.
في مراجعتنا للكتاب الفرنسي quot; فرنسا المعمية بالاشتراكيةquot; تناولنا جملة قوانين سبق لليسار أن جاء بها منذ الثمانينيات، ومنها قانون ضد الكراهية العنصرية. ويلاحظ أحد الصحفيين أن مصطلح quot;عنصريةquot; قد استخدم بطريقة فضفاضة وتعميمية حتى صار يقال عنصرية ضد المقعدين؛ عنصرية ضد كبار السن؛ عنصرية ضد المثليين؛ عنصرية ضد السمان؛ ألخ، بحيث كاد المعنى والمضمون الدقيقان للكلمة يغيبان، وبالتالي، تصبح المكافحة صعبة، والقضايا مختلطة ومتشابكة. وإذا راج التركيز على استعمال المصطلح فيما يخص كراهية اليهود والسود والعرب، فإن استخدام quot; العنصرية ضد البيضquot; جوبه دوما بالإنكار والرفض، لاسيما من مجموعات ومنظمات quot;مكافحة العنصريةquot;، وإن عددا من الضحايا البيض، الذين تقدموا بشكاوى، جرى اتهامهم هم بالعنصرية وباختلاق تهمة باطلة ضد أبناء الهجرة!!
إن العنصرية ضد الرجل الأبيض قائمة في العالم، ابتداء من الولايات المتحدة نفسها حيث تحول البيض في بعض أحياء الولايات الجنوبية إلى ضحايا للسود، ما بين شتائم واعتداء جسدي- أي تحول المظلوم سابقا إلى ظالم وجلاد. وعندما تصوت ملايين الأميركيين الأفارقة ككتلة واحدة لصالح أوباما، فإن ذلك لا يخلو من تحيز للون؛ بل، حتى كولين باول، وزير الخارجية الأسبق، وهو جمهوري، أيد ترشيح أوباما ضد مرشح حزبه الجمهوري، علما بأنه هو الآخر أميركي أفريقي. والرئيس الزيمباوي موغابو يقود بنفسه حملات مطاردة ونهب ضد من بقي من السكان البيض بحجة أنهم من فلول الاستعمار، وهو نهج يخالف تماما نهج نيلسون منديلا.
إن العنصرية ضد الفرنسي الأبيض ظاهرة قائمة بالفعل، وحسب استفتاء جديد، فإن كل فرنسي أبيض من اثنين يشعر ويلمس ذلك في حياته اليومية حين يتعرض لإهانات وشتائم، وصولا لاعتداءات جسدية أحيانا. وقد تفاقمت الظاهرة مع ازدياد نشاط دعايات الأصولية الإسلامية بحيث صار الفرنسي الأبيض مجمعا لرموز العداء للغرب وفرنسا والمسيحية واليهودية، واعتبار الفرنسيين العاديين ورثة لعهود الاستعمار.
لقد نشرت صحيفة لوفيجارو في 5 الجاري ريبورتاجا واسعا غطى كل الصفحة الثانية عن الظاهرة بالوقائع والحقائق والشهادات والشكاوى، ومستشهدا بتصريحات وكتابات بعض المثقفين والساسة اليساريين أنفسهم وبمؤلف مسلم هو طارق يلدز سبق ان أصدر كتابا بعنوانquot; العنصرية ضد البيضquot;.
في الريبورتاج المذكور نطالع أولا قصة هذه التلميذة في مدرسة ثانوية بمنطقة السين العليا، حيث تعاني يوميا مضايقات بقية التلاميذ لأنها quot;ليست مثلهمquot; . وحتى عندما قالت إن جدتها من أصل إيطالي، فإن هذا لم يمنع من استمرار المضايقات و الإهانات اليومية، فهم ينادونا quot; أيتها الغاليّةquot;- قاصدين السكان الغاليين الذين هم أصل فرنسيي اليوم. وعبارة quot; يا غاليّquot; صارت رائجة عندما يتعرض الفرنسي للشتم وكأنها سبة. أما الكلمات المستعملة الأخرى في العديد من أحياء الضواحي الفرنسية، فهي كلمات quot;تابوبquot; الأفريقية، وتعني الأبيض، وكلمات quot;كفارquot;، وquot; آكلو لحم الخنزيرquot;. وكان الوزير الاشتراكي السابق كوشنر قد صرح عام 2005، أثناء أعمال العنف الطلابية الواسعة التي شهدت عدة حوادث اعتداء على طلبة بيض: quot;كانوا يتحدثون عن دافيد[ اسم يهودي دارج] وقادر، ولكن ليس عن سباستيان[ اسم فرنسي دارج]. كذلك أثار الموضوع الكاتب اليساري جاك جوليار. وقد سبق لواحد ومائتي نائب ديجولي أن وجهوا مذكرة شكوى لوزير العدل الأسبق ضد 9 فرق موسيقية من مجموعات موسيقى quot; الرابquot; الشعبية لما يحتويه بعض أغانيهم المذاعة من كراهية لفرنسا والبيض؛ من ذلك مثلا quot; أسفا لأن أمك لم تحدثك عن هذه البلاد العاهرة.. سأسحب هويتي التي غالبا ما ألوثهاquot; [سبق أكثر من مرة أن راح جمهور جزائري في ملعب كرة يصفر للنشيد الوطني الفرنسي]. وجاء في مذكرة النواب المذكورين أن في مدينة quot; هويبيquot;، التي تشكل مساكن البلدية 70 بالمائة من المجموع، يستمع الشبان يوميا للأغاني المذكورة وبتكرار. ولكن الشكوى ظلت حبرا على ورق.
إن المصابين بمرض الكراهية هذا للبيض ولفرنسا، وما يرمزون عندهم من مسيحية وأوروبا ويهودية واستعمار، ليسوا من أبناء الجيل الأول للهجرة، بل من أبناء الجيلين الثاني والثالث. فالجيل الأول مندمج تماما ومعظمهم يعتبرون أنفسهم فرنسيين. أما الجيلان الثاني والثالث، فمشكلتهم فقدان البوصلة، ونقص السلطة في العائلة والمدرسة، وتسامح الدولة. وعندما يُترك القاصرون في بعض الأحياء لشانهم، ولا يحاسبون على تصرفاتهم ذات الطابع العنصري، فإنهم سوف يزدادون مع الوقت عنصرية وينزلقون للعنف. ويقول نائب محافظ في ضاحية سان سان ديني، الأكثر عنفا وحيث انتشار تجار المخدرات، بأن تصرفات القاصرين قد تبدأ بنظرة شزراء، أو ضربة كتف في مركبة مترو، لتنتهي بالضرب بقنينة كولا أو الطعن بسكين أو التهديد به. ويقول إن أكثرية الضحايا لا يتقدمون بالشكوى خوفا من الانتقام، وأيضا ليقينهم بأن لا فائدة من ذلك ولا إجراء سوف يتخذ. وينقل أيضا أن جدران بعض الأحياء مكتوب عليهاquot; اذهب ومت يا فرنسي.quot;
ويبقى أن الفرنسيين الذين يلمسون الظاهرة [56 بالمائة] ويشكون منها لا يتحركون للضغط على الحكومات المتعاقبة والأجهزة الأمنية والقضاء لمعالجة الظاهرة، في حين أن هذا لا يرجى حتى الآن من الحكومة الاشتراكية- أللهم إلا إذا وقعت اعتداءات كبرى في عهدها، فقد تتحرك كما تتحرك اليوم ضد خلايا الإرهابيين الإسلاميين والسلفيين، وضد الجرائم في مارسيليا. وهذه قد تكون إشارة مطمئنة؟؟