مرت ذكرى 11 سبتمبر، وبادر أوباما، كالعادة، للتباهي بمقتل بن لادن وكأنه كان نهاية عهد التطرف والإرهاب الإسلاميين، اللذين غذتهما، ونظّرت لهما، مدرسة سيد قطب. غير أن من ينظر لواقع الحال يجد أن موجات جديدة من هذا التطرف وهذا الإرهاب تكاد تطغي على ساحة العالمين العربي والإسلامي، وتزداد مخاطرهما في الغرب نفسه. وما سمي بالربيع العربي كانت نتائجه ليست بروز الديمقراطية وأنظمتها، بل تصاعد قوى وتيارات التطرف وهيمنتها على السلطة والمجتمعات. وأما إيران الخمينية، فإن نشاطاتها النووية العسكرية قد تفاقمت وتتفاقم باستمرار، والتقارير الجديدة لوكالة الطاقة الذرية تكشف كل يوم عن هذا الخطر الذي يهدد امن المنطقة والعالم، فيما اوباما لا يزال يحلم بتسوية ما مع إيران!
لاشك في أن سياسات الأنظمة الفاسدة والمستبدة، وحتى التي كانت تحارب الإرهاب، قد خلقت أجواء وتربة مساعدة لكي يكون البديل عنها قوى التطرف بالذات لمالها من رصيد في الشارع، ولما لفكرها الظلامي من تأثير على عقلية عامة الناس، ولما لها من موارد مالية ضخمة، داخلية وخليجية. وإذا وقعت سورية مثلا في الفخ الإسلامي بعد سقوط النظام، فإن المسؤول الاول عن ذلك سيكون النظام الأسدي القمعي، الدموي نفسه، الذي يمهد بسياساته الفاشية لبدائل قد تكون هي الأخرى كارثية.
نعم، هناك تطرف من أنواع وطبيعة أخرى، وفي الغرب أيضا، كتطرف القاتل النرويجي بريفريك القريب من النازية، وكتطرف فئات من العنصريين المعادين للمسلمين وللسامية، أي للعرب ولليهود. وهناك تطرف سياسي يساري، كتطرف الفارك الكولومبي وأشباهه بالأمس غي أوروبا وفي الساحة الفلسطينية. ولكن هذه الأشكال من التطرف، وبرغم خطرها، محدودة النطاق، وتكافح أمنيا وقانونيا واجتماعيا وفكريا في الدول التي تظهر فيها، واعني أولا دول الغرب.
إن علمانية الغرب ليست إلحادا كما يفسر أعداؤها من المسلمين، ومنهم المالكي في العراق، الذي يواصل شن غزواته الإسلامية على الحريات والنوادي والموسيقى والغناء والحجاب. إن العلمانية توفر الحريات الدينية لكل المتدينين، ومن مختلف المعتقدات، كما توفرها لغير المتدينين. إنها تضمن حرية الضمير والرأي والعقيدة، وأيا كانت ما لم تصطدم بالقانون. ولكن هذه الديمقراطيات تقدس حرية الرأي والنشر والتعبير، ولا تحمل سيوفا لقطع رقاب من ينتج فيلما أو رسما أو مسرحية يفسرها هذا الفريق المتدين أو ذاك، مسيحيا او مسلما، بالإساءة لدينه. وعندما ينتج البعض في الولايات المتحدة فيلما يفسره السلفيون والإخوان وأمثالهم بالإساءة للرسول الكريم، فإن الدولة الأميركية ليست هي المسؤولة، ولا تبيح لها قوانينها والإعلان الدولي لحقوق الإنسان حظر هذا الفيلم أو ذاك. أما إذا كان هذا الفيلم يعتدي حقا، وصراحة، على الإسلام وشخص الرسول الكريم، ومن موقع نشر الكراهية والتحريض ضد المسلمين، فإن بالإمكان تقديم الشكاوى القانونية أمام المحاكم الأميركية نفسها، وذلك على أساس أن الديمقراطية العلمانية نفسها وقوانينها تدعو لاحترام كل المعتقدات وتحظر قذف العقائد الدينية والأشخاص، حتى ولو لم يكونوا من الأنبياء. والحقيقة أن أكثر من أساء ويسئ لسمعة الإسلام والرسول في العالم كله هم المسلمون أنفسهم، بما يمارسوه الكثيرون منهم من تطرف وإساءات صريحة للأديان الأخرى، وبعمليات القتل والإرهاب في كل مكان، وبأخذ الرهائن وقطع الرقاب، وباستغلال رسم أو فيلم معين لشن المظاهرات الغوغائية الهائجة والعنيفة، ومهاجمة السفارات، وقتل أو محاولة قتل هذا المؤلف الغربي أو ذاك، وهذا المخرج أو ذاك. بل، وتنظيم المظاهرات وارتفاع دعوات القتل ضد مفكرين ومبدعين من العرب والمسلمين أنفسهم، وكل ذلك باسم الدين الذي اختطفوه، وراح كبارهم يتاجرون به من أجل الحكم والهيمنة. وها هو عادل إمام يدان قانونيا في مصر، وأم كلثوم وعبد الحليم موضع تحريض السلفيين في مصر، واللقاءات الثقافية في تونس تهاجم بعنف، والنوادي العراقية تداس حرمتها ويعتدى على من فيها بكل شراسة وصلف.
إن مظاهرات الرعاع الهائجين ضد السفارة الأميركية في القاهرة وضد القنصلية الأميركية في بنغازي وقتل أربعة، منهم السفير الأميركي في ليبيا، لم تكن غير متوقعة، ولم يكن نشوبها بحاجة لفيلم ما حتى لو كان حقا يسئ للرسول ويستحق الشجب. فسياسات أوباما في مد الجسور للإخوان والسلفيين ولإيران الخمينية لم تنتج غير إشعار هذه الأطراف بأن الطرف الآخر ضعيف، وبأن لها هي دور الحركة والمبادرة والتحدي. فالربيع العربي المزعوم جاء بالهيمنة الإخوانية- السلفية، ورقعة القاعدة قد اتسعت، وخصوصا في اليمن ومنطقة الساحل والمغرب العربي. وقد اختارت السياسة الأميركية البحث والعمل لتوثيق التعاون مع القوى الإسلامية بدلا من البحث والعمل لتوثيق الروابط مع القوى المدنية والديمقراطية العلمانية. والنتيجة أن القوى الأولى سوف تنقلب على الولايات المتحدة نفسها، عاجلا أو آجلا، كما جرى من قبل في أفغانستان، وكما جرى في العراق.
إن الانتفاضات العربية غير مرشحة إلا لحلول أنظمة مستبدة جديدة محل سابقتها، وذلك لأن سياسات الاستبداد والفساد والاحتكار تنشئ فراغا سياسيا وفكريا لا يمكن ان تملؤه غير أفاعي التخلف والتطرف لما لها من سند قوي في عقليات الناس وعاداتهم وفي أمية نسبة عالية بينهم. وبدلا من الركض وراء الانتخابات أولا، فإن كل التجارب، منذ التجربة العراقية خاصة، تبرهن على أن أية انتخابات في بلداننا، التي لم تعرف حياة ديمقراطية راسخة، ومهما كانت الانتخابات quot;حرةquot;، لن ينتج عنها صعود الديمقراطية ما لم تكن شروط الانتخابات وتربتها مهيأة سلفا، ولاسيما في عقلية النخب السياسية وفي عقول ونفوس المواطنين ونظراتهم للأمور وممارساتهم. فكيف ونسبة الأمية عالية جدا! والإصلاحات المطلوبة يجب أن تنتهي بالانتخابات لا أن تبدأ بها كما كانت المطالبات في العراق حال سقوط صدام، وكما جرى في دولquot; الربيع العربيquot;، وكما يطالب الإخوان وبعض المثقفين العلمانيين في الأردن. فالإصلاح المتدرج، ومكافحة الفساد، والنهوض بالتعليم، وقدر مناسب من الحريات ومن العدالة الاجتماعية شروط أولية مطلوبة قبل أية انتخابات في دول كدولنا؛ وإلا فإنها صعود الإسلاميين، والهياج الغوغائي الدائم، وعمليات اجتثاث الحريات الشخصية والعامة واستئصال المعارضين. وها هو احمد شفيق نفسه يساق للمحاكم، وغدا قد يساق بعض من سموا أنفسهم في مصر بشباب الثورة، ففضلوا مرشح الإخوان على أحمد شفيق، العسكري العلماني، المتفهم لحاجات المواطنين والمستوعب لمصالح مصر ولموازين القوى الإقليمية والدولية، والذي لم يكن لا كمبارك ولا كعبد الناصر. وهنا أيضا على أوباما ومساعديه ومستشاراته ومستشاريه، أن يلوموا أنفسهم على خطأ خياراتهم السياسية هذه، المحفوفة بالأخطار.
أخيرا، ومرة أخرى وأخرى، لماذا يكون المسلمون أكثر أتباع الديانات الأخرى عرضة لممارسة العنف والهياج لدى أي خبر عن كتاب أو فيلم يعتبر مسيئا للإسلام؟؟ وهل الإسلام، الذي هو ثاني ديانة في العالم من حيث عدد المعتنقين، من الضعف والهزال بأن تصدعه أفلام أو رسوم؟! وكم من أفلام وتمثيليات وكتب ظهرت في الغرب تعرض المسيح على نحو غير ما يرد عند المسيحية والمسيحيين، فلم يقتل أحد، ولم تحرق سينما أو مسرح، وإنما كان جواب المتدينين المتحمسين منهم، الذين يشعرون بإساءة ما، هو إما التظاهر السلمي، أو الرد في وسائل الإعلام. وهذا، بينما غالبية أئمة المساجد عندنا تدعو بالموت والويل على المسيحيين واليهود، وبينما المسيحيون والأقليات الدينية عندنا في خطر دائم، وثمة بلدان عربية وإسلامية لا تسمح حتى بوجود كنيسة!