اعتاد الفكر السياسي الإسلامي والعربي [بمختلف اتجاهاته] إلقاء تبعة أية مشكلة على شماعة الصهيونية وإسرائيل، مع إضافة أميركا غالبا: [الإمبريالية والصهيونية].
هذا المنطق السياسي هو، في الغالب، ملجأ الحكومات الفاشلة والأحزاب التي لا تجرؤ على قول الحقيقة، والنقد الذاتي، والكتاب والصحفيين المبتلين بالداء ذاته.
في عراق اليوم فساد لا نظير له إلا في بضع دول متخلفة. وفي العراق حملة ضارية ضد النوادي الثقافية والمسيحية وضد سوق الكتب وشارع أبي نواس، الذي كان يمثل، بحد ذاته، ما كان يسود العراق في أيام مضت من انفتاح وتعايش جيد بين فعاليات الأنس البريء ورموز التدين، ومن قسط كبير من التسامح في علاقات الناس برغم تعدد الانتماءات الدينية والعرقية والمذهبية. وفي عراق اليوم صراعات سياسية طاحنة على المناصب ومراكز النفوذ، ورئيس مجلس للوزراء يتصرف كالحاكم بأمره. وفي عراق اليوم انتشار واسع وفظ للطائفية، وتبعية سياسية لنظام الفقيه حتى عندما يسمم مياهنا ويحتل آبار نفط عراقية.
لقد وقف أحمدي نجاد، كالعادة، ليتهم إسرائيل بكونها وراء الفيلم البذيء المسيء للرسول الكريم. وكرر المالكي الأسطوانة نفسها، داعيا للدفاع quot; عن مقدسات المسلمينquot;. أما الشيخ صدر الدين القبانجي، أطال الله عمره، فقد أفتى باتهام كل من إسرائيل وفرنسا والولايات المتحدة بكونها تقف وراء quot; مخطط quot; يستهدف المسلمين!
لمن لا يعرف هذا الشيخ الجليل، فإنه هو من سبق وأفتى بأن الحكم في العراق هو للشيعة حصرا، قاصدا الأحزاب الشيعية الحاكمة، وهو الذي جاء ببدعة أن زيارة كربلاء أهم سبع مرات من الحج، وهذه فتوى خارجة عن فرائض الدين المسلم بها عند المسلمين وفي القرآن. ينسى شخنا الجليل أنه وأحزاب الإسلام الشيعي يتصدرون السلطة اليوم بفضل أميركا نفسها ذات quot;المخططquot; المعادي للإسلام. فهل إن هيمنتهم على السلطة العراقية بفضل الأميركيين تعني عداء للإسلام إذن!!
لقد كتبنا أكثر من مقال عن الفيلم البذيء إياه، والقضية أن لا مؤامرة ولا مخطط دولي أو إسرائيلي، بل تعصب أعمى من بضعة أنفار من أقباط أميركيين، [لا علاقة لأقباط مصر ولا لبقية أقباط أميركا بهم]، وأبرزهم متهم قضائيا لأسباب مالية. هذا النفر استغل أحد مقدسات الأنظمة الديمقراطية الغربية، ونعني حرية الرأي والتعبير، استغلالا أحمق وحاقدا. وهذه الحرية في الديمقراطيات الغربية مقدسة لأنها انتزعت انتزاعا عبر أجيال وبتضحيات غاليات، ولا يمكن لأية دولة وحكومة غربية المساس بها، والانقضاض على من يمارسها كما يجري في بلداننا نحن، ما لم يدعُ الشخص المعني للعنف تجاه الآخر. هذه مقدسات عندهم مثلما يعتبرون الحرية الدينية واحترام عقائد الآخر من المقدسات العلمانية وبدليل وجود عشرات الآلاف من المساجد في الغرب. وسواء عن الفيلم أو عن رسوم المجلة الفرنسية quot;شارلي إيبدوquot;، فإن الأمر في الحقيقة هو بهذا الوضوح، ولا مسؤولية، لا للدولة الفرنسية ولا للدولة الأميركية، عن ممارسة مواطنين لحرية الرأي والتعبير والنشر، إن تم ذلك باحترام للقوانين السارية. وهذا بغض النظر عن تقييم هذا العمل أو ذاك. فالمسؤولون الأميركيون أنفسهم عبروا عن اشمئزازهم من الفيلم المذكور واتهموه بالتفاهة. وقد تناولت في مقالي الأخير الدعوات الصادرة في العالم الإسلامي لسن قوانين دولية وغربية ضد ما يعتبرquot; إساءة للأديان، وهو أيضا ما عالجه بواقعية ومنطق عبد الرحمن الراشد في المقال الذي ورد ذكره في مقالي ذاك. وأقول إن الأحرى بالمراجع والحكومات والمنظمات التي تروج لهذه الفكرة غير الواقعية أن تنظر لما يعم بلداننا من مساوئ وظلم وفساد وتعليم متعصب، وكل من ذلك يشكل إساءة كبرى للقيم الدينية والمدنية معا. وحين نطالب الغير بعدم الإساءة، فيجب أولا أن نكون نحن القدوة بعدم الإساءة اليومية للأديان الأخرى في الفضائيات والمساجد والحسينيات والمقالات الصحفية، فمن نصب نفسه للناس إماما فعليه أن يبدأ بنفسه، كما قال الإمام علي. وحين ينبري المالكي والقبانجي ومقتدى الصدر للترويج لنظرية المؤامرة ضد الإسلام، فيجب أن يسألوا هم و زملاؤهم من زعماء الأحزاب الإسلامية العراقية: quot;وهل تسهيل دعم إيران لنظام الأسد، بالمال والنفط والمقاتلين والسلاح، هو من الإسلام عندما تكون النتيجة دعما للمذابح اليومية والتدمير المستمر؟!quot;- وهذا بصرف النظر عن رأينا في الأزمة السورية بكل جوانبها، وعن إدانتنا للانتهاكات الدموية من أية جهة أتت، من الحاكم أو من المسلحين المعارضين، وبصرف النظر عن الاحتمالات الرهيبة القادمة. وقد كان الأحرى بالحكومة العراقية وأحزاب الإسلام السياسي الشيعي الوقوف على الحياد على الأقل، مع اتخاذ موقف إنساني تجاه اللاجئين، بدلا من مسايرة النظام الإيراني، الذي لا تهمه مصالح الشعب العراقي بل يتصرف وفق حساباته الخاصة.
أجل، بدلا من الحديث عن مؤامرة ما، يجب النظر لما يجري عندنا من اعتداءات على الحريات العامة والشخصية، وعلى غير المسلمين ورموزهم، ومن فساد، ومن ركض وراء مشيئة نظام الفقيه، الذي هو ركن أساسي في الأزمة السورية، والذي ينهب مياهنا، ويدخل المخدرات إلى أراضينا، ويتدخل في كل شؤوننا وفي أرجاء المنطقة- فضلا عن مسعاه المستمر لتصنيع القنبلة النووية.
وأخيرا، فإن دينا يعتنقه أكثر من مليار من البشر في العالم لا تهزه رسوم ولا أفلام بائسة وتافهة؛ أما ما يسيء للإسلام حقا فهي ردود الفعل الهمجية والطائشة والدموية، كما جرى في مصر وبنغازي وباكستان والسودان وغيرها. فالدفاع عن الإسلام والرسول لا يكون بإطلاق العنان للغوغاء المتعصبين الذين تقدم أعمالهم ذخيرة مستمرة للأقليات العنصرية المتعصبة في الغرب. وعلى الحكومات والأحزاب الحاكمة في العالمين العربي والإسلامي عدم اتخاذ أية إساءة للدين ورقة سياسية للتغطية على ما يعم بلداننا من مشكلات وسوء أداء. ولكن يبدو أن هناك من بين المتاجرين بالدين من يرتاحون لأية إساءة للإسلام يقوم بها فرد غربي حاقد أو مجموعة فاشلة، فيستغلون ذلك لأغراضهم السياسية. ولعل النظام السوري نفسه قد ارتاح للضجيج الغوغائي الجاري حول الفيلم وبعض الرسوم السخيفة لكيلا تصبح المذابح السورية في صدر نشرات الأخبار. وعجبا، ثم عجبا، لجموع كثيفة وأصحاب مناصب وعمائم، كنا نقتنع بمصداقية غضبها انتصارا للرسول لو أنها كانت أيضا تتظاهر لوقف المجازر التي يتعرض لها المسلمون، ولو أنها أدانت الإساءات عندنا نحن لغير المسلمين ودياناتهم.