مع كل فورة احتجاجات غوغائية على فيلم تافه، أو رسم ملتبس التفسير، أو كتاب فيه عبارات تحتمل عدة تفسيرات، بينها كونها مسيئة للإسلام، أو على قس عنصري شبه معتوه، في هذه الدولة الغربية أو تلك، ترتفع أصوات المنظمات والمراجع والحكومات الإسلامية لتطلب من الغرب سن قوانين تحظر quot; الإساءة للأديانquot;. واليوم، يطالب الأزهر من الأمين العام للأمم المتحدة بالعمل لاستصدار قرار دولي في هذا الشأن.
إنني أتفق حول هذا الموضوع مع ما أورده الأستاذ عبد الرحمن الراشد في عدد quot;الشرق الأوسطquot; بتاريخ 16 الجاري، وبعنوان quot; هل يمكن عقد هدنة بين الأديانquot;.
أرى، أولا، تحديد ما يقصد بquot;الإساءةquot; تحديدا دقيقا وعلميا وقانونيا. ما المقصود يا ترى عند من يروجون لهذا الطلب، ومنهم الحكومة الجزائرية؟
في الغرب حريات شخصية وعامة توفرت وتراكمت على مدى العقود والقرون، وتعتبر مقدسة، وتنص عليها الدساتير، وفي المقدمة منها حرية الرأي والضمير والتفكير والإبداع والنشر والتعبير. وهذه الحريات، كما قلت، مقدسة عندهم، ولاسيما في الثقافة والقوانين والتقاليد الأنجلو ndash; سكسونية. وكما يقول الراشد، فإن هذه الدول حين مرت ببعض الحالات التي مست المعتقدات quot; فضلت التمسك بالحرية على حماية العقائد والمقدسات بشكل عام.وسبق لي في مقال بعد مقتل بن لادن أن كتبت التالي:
quot; المسلمون هم وحدهم من تظهر بينهم الحشود الكثيفة المنادية بالموت لكل غربي يعتبر مسيئا للإسلام ورسوله، وهذه ظاهرة غير موجودة في الغرب المسيحي ولا حتى بين رجال دينه حين ينتج فيلم أو يظهر كتاب يعتبر مسيئا للمسيح؛ بل إن الكنيسة في الغرب رفضت حتى الدعوة لمقاطعة فيلم يسئ للمسيح.quot; ويقول الراشد:
quot;تحت غطاء حرية المعتقد والتعبير، تنشط في الولايات المتحدة جماعات عنصرية تعمل علانية، وبصورة قانونية، تتهجم على اليهودية، وضد طوائف مسيحية، والآن ضد الإسلام. هذه الجماعات مر على وجودها عقود طويلة، وثبت أنها فشلت في كسب رأي عام واسع، وظلت صغيرة مكروهة في مجتمعها، وبالتالي لا يمكن أن تنسحب أفعالها على بقية السكان ولا على أبناء طائفتها. ومثل هذه الجماعات المريضة فكريا كانت، وستستمر، موجودة، في كل أنحاء العالم، وهي لا تجد لنفسها أهمية إلا عندما تجد من ينفخ فيها النارquot;. ويذكّرنا الراشد بقول عمرquot; أميتوا الباطل بالسكوت عنه.quot; والواقع أن ما من أحد نفخ في بوق الدعاية لسلمان رشدي أكثر من خميني والمسلمين الذين جاروه. وهذا الفيلم البائس الكريه الذي أثار الضجيج والعويل والعنف هذه الأيام، لم يكن ليعرفه غير بضعة أنفار لولا المسلمون أنفسهم بما فعلوا ويفعلون باسم الدفاع عن سمعة الرسول الكريم بسبب فيلم مغمور ظهر في صمت قبل حوالي العام، فإذا بهم يعبرون عن quot;غضبهم الدينيquot; [ تعبير الرئيس المصري نفسه] بالحرق والقتل وبصرخات هستيرية، وبرفع أعلام القاعدة حتى في مصر وتونس. ثم يمتد الغضب للعنف ضد المؤسسات الألمانية والبريطانية مع أن الفيلم من إنتاج نفر في أميركا.
في الغرب هناك حريات واسعة للأديان ومعتنقيها، كما هناك حرية الفكر والتعبير لمن يعرفون باللاأريين، وللمفكرين الملحدين. فكيف يراد فرض ضوابط قانونية محلية أو دولية على حريات رسخت وفرضت نفسها دستوريا، وممارسة،ً وتقاليدً، في الديمقراطيات الغربية؟؟
وهناك أيضا ما يشير الراشد إليه من خلافات بين العقائد الدينية نفسها، وهي خلافات عميقة، لا يمكن القضاء عليها بأية ضوابط قانونية، بل بالحوار الجاد والمستمر والودي. ولكن الحوار غير مجد إن كنا نعتبر أن لا دين غير الإسلام، وأن غير المسلمين هم كفار، ما بين quot;كفار ذميينquot; وquot;كفار غير ذميينquot;، على حد تعبير السيد علي السيستاني.
إن المسلمين يتطرفون ويتوسعون على الهوى في تفسير معنى quot; الإساءة للإسلامquot;. وقبل الحملات الغوغائية العنيفة ضد هذه الدولة الغربية أو تلك، رأينا نماذج من سوء تفسير مفهوم quot;الإساءة للإسلامquot;، وذلك لو عدنا للوراء للعشرينيات مع كتاب علي عبد الرازق عن فصل الدين عن الدولة، أو كتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي، أو كتاب منصور فهمي عن المرأة في الإسلام. وصاعدا، ننتقل لمقتل فرج فودة، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ، وقصة نصر حامد ابي زيد، وضجة الأزهريين على رواية كانت قد ظهرت قبل عشرين عاما، ولم يقرأها أي منهم! واليوم ما جرى من محاكمة عادل إمام بتهمة الإساءة للدين، وتقتيل شباب الإيمو في بغداد بتهمة الإساءة للأخلاق العامة والمقدسات، والهجوم العنيف على لقاءات ومنتديات ثقافية في تونس quot; الربيع العربيquot;، وهلم جرا، وهلم جرا.
ونضيف، وبكل صراحة ووضوح، ونكرر، بأن أكثر الإساءات للأديان الأخرى تصدر في العالمين العربي والإسلامي على ألسنة خطباء الجمعة، وفي المدارس الإسلامية، والفضائيات الكثيرة واليوتيوب وغيرها. وهذه لا تقتصر على تحقير غير المسلمين ومعتقداتهم واعتبارهم مواطني درجة ثانية ونجسين، بل وعلى التحريض على العنف والقتل ضدهم: quot; أللهم بدد شملهمquot;! quot; أللهم اقتل أطفال اليهود أبناء القردةquot;، ألخ.
في العام المنصرم، في 25 سبتمبر، نشر الكاتب الكويتي محمد الوشيحي مقالا بعنوان quot; مشايخ آل كابونيquot;، خاطب فيه بسخرية شيوخا معينين بأسمائهم الصريحة وغيرهم، ممن يدعون الله في الفضائيات لكي يبيد النصارى. ويقول لهم بتهكم: quot; سامحوهم هذه المرة حتى يكملوا اكتشاف الخريطة الجينية التي ستساهم في علاج الأمراض، فهم في منتصف الطريق، وقد توصلوا لعلاج أمراض منها السمنةquot;-[ المبتلى بها الكثيرون من المشايخ!]. ويقول لهم أيضا إنه لو فرضنا واستجاب الله لدعائهم، فحينذاك لن يستفيدوا من النفط مثقال ذرة، quot; إلا في الحناء أو في علاج جرب الإبلquot;!! ولماذا الدعاء بتفريق شملهم بدلا من الدعاء بالتصافي معهم وهم الذين اخترعوا الأدوية وآلات الزراعة وتنقية مياه البحر وكل ما يخطر على البال؟ لماذا هذا التعطش للدماء والمقابر الجماعية؟quot; ألا نرى كيف حول بعض المشايخ وأئمة الفضائيات الجوامع دين الإسلام إلى دين quot;قصف عشوائي وحرب مدنquot;؟
ترى من هم الذين يسيئون لمعتقدات الآخرين، بل وللإسلام نفسه، أكثر مما تسئ فتاوى وخطب جوامع ومناهج تعليم شائعة في العالم الإسلامي؟! فإذا كنا نريد من الآخرين فعل شيء لمنع الإساءة للإسلام، فلنبدأ بأنفسنا: بمناهج التعليم، بدعوات الكراهية والعنف من الفضائيات وفي الجوامع، وبفتاوى الجهاد والتحريض على العنف، ولنقم بإدانة عمليات الإرهاب الإسلامي والقاعدة إدانة صريحة وحازمة وبلا تبريرات سياسية أو غير سياسية، وباستعداد الجاليات المسلمة في الغرب للاندماج في مجتمعات الضيافة التي توفر لهم كل الحريات من دينية وغير دينية، بدلا من الاحتجاج على ذكر المحرقة النازية في المدارس أو على وجود صليب في علم أستراليا، أو محاولة فرض النقاب، أو قتل مخرج، وتهديد مؤلفين.
إن صيغة quot; الإساءة للأديانquot; فضفاضة جدا، وتتسع لعشرات التفسيرات. أما ما يمكن ويجب الإصرار عليه فهو إدانة ومعاقبة دعوات التحريض الصريح على العنف تجاه الآخر بسبب الدين أو المذهب أو الرأي أو السلوك الشخصي الذي لا يلحق ضررا بالآخرين. ومثل هذه الممارسات تخضع عادة لمساءلة القانون في الغرب ويعاقب عليها. ولو صدرت في الغرب عن قس مهووس في خطبة بالكنسية دعوة لكي يبدد الله شمل المسلمين، أو quot; اقتلوهمquot;، لعوقب في الحال، وذلك خلافا لما يجري عندنا من غض نظر الحكومات والقضاء ومنظمة التضامن الإسلامي، أو المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة [ أسيسكو]، التي يرتفع صوت أمينها العام في كل مرة منددا بما يعتبره حربا على الإسلام والمسلمين في الغرب دون أن يلقي مجرد نظرة على مضامين مناهج الدراسة في المدارس الإسلامية.
ونعود للراشد الذي يرى أن الممكن والمعقول هو التشجيع على الحوار والتفاهم على احترام التعايش quot;وإدراك مخاطر الانجرار وراء الغوغاء، والتعهد بمواجهة خطاب الكراهية كفعل تطوعي. أما استصدار اتفاقيات تلزم دول العالم بمنع القدح في الأديان وأتباعها، فهو غير ممكن في ظل النظام الدولي القائم ومناخ التقنية الحرquot;.
إن الحكومات والمؤسسات الرسمية في الغرب لا تتدخل في الشؤون الثقافية والفنية والعلمية، وهي ليست مسؤولة عما يطرح ما لم يدعُ صراحة للعنف ضد الآخر. أما تحميل الدول الغربية مسؤولية تصرف هذا الأحمق الحاقد أو ذاك، وتنظيم المظاهرات الهائجة والدموية ضد سفاراتها وقتل سفرائها وتدمير مؤسساتها، فإن هذا، وكما يقول الكاتب العراقي عدنان حسبن، سلاح ذو حدين، أي سنبرر quot; للمتدينين المتطرفين في تلك البلدان أن يهاجموا كل سفاراتنا وقنصلياتنا في بلدانهم استنادا إلى حجة مماثلة، ففي كل يوم يهاجَم المسيحيون في جوامعنا وحسينياتنا ومن على شاشات التلفزيون وعبر الإذاعات وفي خطب الجوامع والمساجد والحسينيات، ويُندد بالحضارة المسيحية بوصفها حضارة فاسقةquot;، مع أن المهاجمين يعتمدون في حياتهم اليومية على الأجهزة والمعدات المنتجة بفضل هذه الحضارة، بما فيها مكبرات الصوت في الجوامع والحسينيات وأجهزة الراديو والتلفزيون والتلفون ومشروبات الكولا وسواها. وما حصيلة ما جرى في بنغازي والقاهرة والسودان وتونس وباكستان وأفغانستان وغيرها غير quot; تعميق لصورتنا السلبية في عيون الغربيين .. صورة القتلة وسفاكي الدم بالجملةquot;[ عدنان حسين]. ولن يجدينا أن نضطر يوما ما للقول بمرارة quot; هذا ما جنيناه نحن على أنفسنا ولم يجن أحد سوانا علينا!quot; وبدلا من أن يبحث أوباما عن أصابع القاعدة، وهي موجودة فعلا لأن القاعدة تستغل كل ثغرة وفوضى وفراغ فكري وأمني، فإن عليه وعلى الباحثين معه التأمل الكشاف في الثقافة والعقليات التي تهيمن على الساحة في بلداننا. وهل نستغرب ارتفاع أعلام الجهاد القاعدية في مصر لولا الدور الملتبس والمزدوج للإخوان المسلمين في موضوع الفيلم، ولولا إفراج مرسي عن جهاديين ومتهمين بالقتل، ولولا خطبه نفسها، التي قال في إحداها بأنه جاء quot;ليمنع الحوائل بين الناس ومعتقداتهمquot;، وهو مفهوم قطبي، كما لاحظ أحد الكتاب، ولولا أن مرشدهم كان عضوا في تنظيم سيد قطب لعام 1965. ولكن إدارة اوباما، التي تعاتب مرسي لأنه لم يدن مقتل السفير في بنغازي، ولأنه برر المظاهرات القاهرية وسماها بالغضب الديني،[لكن مع رفض العنف]، هي من وضعت كل ثقلها مع الإخوان في مصر وغير مصر. ولعل القادمات من مظاهرات الهياج وأعمال العنف باسم الدين قد تكون أدهى وأكثر همجية ونحن لا نزال في موسم quot;الربيع العربيquot;!